الفصل الاول

 ـ1ـ
   أهتمّ لحديثه واستمتع في الجلوس معه منذ أن عرفته إلى يومنا هذا، فقد ادركته على خلقٍ كبير، ثاقب الرّأي، مستنير الرؤية، ضليع اللغة، لبق الحديث، صحيح اللسان، لا ينطق إلّا في خير الناس.
   عاش ما مضى من حياته بضمير مستقيم، فكان ولم يزل نظيف اليد، عفيف الكلمة، رافضًا بيع كلمته أو تأجير قلمه، ولم يكن يومًا متواجدًا في سوق بائعي الضمائر ومزوري الحقائق.
   يقرأ في كلّ الاتجهات من يسارها إلى يمينها، عميق الإيمان، يدب على الأرض ليوزّع إيثارًا من ثقافته وروحانيّته على الوجوه الناظرة. ومَن منّا لا ينشرح صدره حين يُلاقي حكيمًا شيّبَه الكبر وبيّضَ شَعرَه بهذه الخصال الحميدة؟. أوَليس الكثير منّا يخلع عنه عبء الحياة حينما يكون أمام هكذا نموذج ترتاح إليه النفس وتهدأ باحاديثه.
   هو طرازٌ فريدٌ من الناس، له وفرة مذهلة في العطاء، ضحكته تتّسع للجميع، محبته تحتضن الجميع أيضًا، يقرن الأقوال بالاعمال. يجزلُ العطاء في تخفٍ واتضاع، فيما هو يحضّ الناس على شكر الله،  أب الجميع ومصدر كلّ عطاء وبركة. كما عهدتُ فيه  يدًا بيضاء ممدودة لمصافحة الصغير والكبير، ومساعدة الغريب والقريب. مؤمنًا بالإنسان على تنوعه. يحب الناس ويعشق الخير لهم.
   شربل بعيني الذي عرفته محاورًا معتزًا بمعطياتِه دون أن يفرض رأيه على الآخر، يبتعد عن الجدالات والسجالات العقيمة والأحاديث الجوفاء.
   هو مستمع دقيق، شديد الإصغاء، وعندما يتكلم يصغي له الخصوم والمؤيدون؛ ففي حديثه دُررّ الكلام. يوجه إنتقاداته في اللقاءات الرسميّة واعماله المسرحيّة والأدبيّة بنفس القدر الذي يقول به في المناسبات والأحاديث العامة، ولا يملك المستمع إلّا أنْ يحترمه وأنْ يجلّه على صراحته البنّاءة وصدقه المعهود. فهو رجلٌ مواجه، يقول ما يشعر به، ويُعبّر عمّا في قلبهِ مباشرة وينطق بمّا في عقلهِ دون مواربة. قادر على الإفصاح عمّا يريد، بل هو يرمي بالآراء الإجتماعيّة والأفكار الثقافيّة ووجهات النظر الشخصيّة دون تحفظات ذاتيّة. يوجه انتقادات مفيدة بلسانٍ صريح عندما يرى خطأ متعمدًا واضحًا أو خللاً مستمرًا، غير عابىء إلّا بالحق.
   يترفع على الصغائر والضغائن، يصغي الى صوت الضمير قبل صوت الناس، لا أحد يملي عليه أمرًا ما، لا يحاكم الآخر بمحكمة الـ أنا، بل بميزان المحبة وعدالة الضمير، انطلاقًا من تعاليم السيّد المسيح له كلّ المجد.
   إنّ ذلك الأديب الإنساني علمني: ما من دارٍ ملئت حبرًا إلا وملئت عبرًا.
   كما تلمست في حياة ذلك "الكاهن" [1] العلمانيّ حكمة مفادها: ما من قلب مُلىء من يسوع ألا وملىء من البركة. وجدت في حياته قدرًا كبيرًا من الروحانيّة، قلبه مفعم بحبّ حبيبه يسوع، والسيّدة العذراء والدة المسيح الاله لها حيز كبير من صلاته واحاديثه.
   هو أديب مؤمن في مطلع الستينيات من العمر، أحنَى الزمن ظهره وأمال المرض رقبته، دون أن يقوس إيمانه.
   شاءت الصدفة أو نعمة الرب أنْ يكون منزله على مقربة مسافة قصيرة سيرًا بالسيارة عن محل سكني في سيدني. فكنتُ ألقاه في زمن محنتي وأتسامر معه كلّ يوم تقريبًا، ما خلا يومي السبت والأحد. وذات مساء جلسنا في بيته على مقعدين مُتواجهين وبيننا مائدة للشاي من الطراز القديم (الانتيكات)، كانت الجلسة مُريحة، والأحاديث مُتنوعة، مُسلية ومفيدة، وتحدثنا عن أنَّ ذلك الاخلاص المُتجرد بات نادرًا في العلاقات بين البشر، لا سيّما في الوسطين الأدبي والكنسي؛ حيث كثرت المنافسات الرخيصة وشاع الضرب تحت الحزام وتفشت الغيرة وكثر التسقيط!.
    قال لي:
ـ لا بأس يا أبانا...، ولكن الكلمة صدى لأعماق كاتبها وناطقها، فلا تتوقف عن إعلان اعماقكَ، فهي مرآة للكثيرين.
علقتُ قائلاً:
ـ وما جدوى الكتابة؟ فكلّما هممنا بإضاءة شمعة أمل في درب الإنسانيّة المُعتم تهب رياح عاتية تزيد الدروب وحشة وظلمة وترمي بنا إلى نقطة البداية.
   رمقني بنظرة حائرة وتوقف عن الكلام. صمتَ لبرهة!. وبعد أن نظر إلى الأرض مُتنهدًا عاود الحديث بنبرةٍ واطئةٍ على غير المعتاد قائلاً:
ـ لقد قرأت جانبًا من كتابك "خلجات الذات الجريحة"، وسمعت من أحد أصدقائنا إنّك كاتب ولك العديد من الكتابات المُفيدة والشيقة، لذا أوّد أن أُسدي لك بنصيحة مجانية: صدّر أفكارك للذي يُقدرها فقط.
   تطلعتُ إليه بدهشة لا تخلو من استفهام، وكان صمتي أبلغ جواب.
   ثمَّ عرجنا على مواضيعَ شتى، والتمست فيه ميلاً أو رغبةً للحديث بشغفٍ عن حياته الماضية. فتحَ ملفات الذّاكرة المجروحة واسترسل بالكلام.
   كنتُ كلّي آذان صاغية له. وبعد أن طال الحديث، وتبددت تحفظاته رويدًا رويدًا، شرعَ بالغوص في محيط الذات، فاتحًا الصندوق الأسود ليبوح عن خفايا قلبه ورحلة العمر الحياتيّة والأدبيّة المُتعبة، وأستذكر مواقف عصيبة ومشاهد أليمة ووجوه غادرة، فتعكرت صفوته، وبدا لي بعد أنْ راودني الإحساس بأنّ الرّجل فضل الانعزال والابتعاد، بعد أنْ لعبت به الأيام وقست عليه الظروف وغدرته بعض أقلام الزملاء!.
   وما زلت حتّى اليوم أذكر أيّ غصةٍ كانت تنتابه حين تصفحَ ذاكرة الأمس المليئة بالذكريات الموجعة!؛ حيث كنتُ ألحظ كَم كان وقعها ثقيلاً وقاسيًا عليه، ولقد ظللت أستمع إليه حتّى تجلى الغموض، بيد أنّني أدركت من خلال معرفتي به أنه لا يريد الغوص أكثر من هذا الحد في خزينة أسراره المغلقة.
   سكتَ صاحبي لبرهة وسادت حالة من الصمت المُطبق، ثمَّ خرجَ من صمته ولكن سرعان ما عاوده الحذر من الافصاح عمّا تبقى مكنونًا في قلبه، واكتفى بالنظر إلى مرآة الغربة، حاول بعدها الحديث، لكن حصارًا ممدودًا داخل النفس جعله يتلعثم ويتوقف. وسرعان ما تفوهَ قائلاً: 
ـ لقد فضلت يا أبانا أنْ أُكمل ما تبقى من حياتي بعيدًا عن تلك الأجواء المُرهقة التي أضرت بي!. إنّها عزلة اختياريّة رسخت إيماني وعمقت علاقتي مع الله.
   أما أنا فلم أشأ أنْ أُعلّق بكلمةٍ!. وبدا لي أنه لن يقول أكثر ممّا قال بعد أنْ ضاق ذرعًا بتذكر  تلك الأحداث المريرة المؤلمة، حينئذٍ عرفت أنَّ لكلّ أديب كبير صليبًا، يثقل كاهله، لكنه في الوقت ذاته هو عكازٌ لطريق الآخرين، فالمؤمن مُبتلى!.
   واصارحكم القول: إنّني أفاجأ على الدوام عندما التقي أديبًا ذائع الصيت في مهجرنا كشربل بعيني ببساطة مظهره وحسن سلوكه وروحانيّته العميقة وتواضع ذاته ومحاولة التواري عن أنظار الآخرين، وهي سمات قلما  تنتاب الشخصيات الكبيرة في العادة. وسبب المفاجأة هو أننا اعتدنا في محيطنا الشرقي في بلداننا أو مهجرنا الأوزي على نمط من سلوك الشخصيات المشهورة يدفع بها التعالي بعيدًا عن حياة التواضع ويجعلها أسيرة عظمة الشهرة والترفع على الناس وعدم الإلفة معهم ووهم الأعجاب بمرض الـ (أنا). أفلستُ محقًا بالقول: إنّ الاعجاب بالنفس هو وليد الجهل والسطحية.
   وقد لا أفشي سرًا بقولي: إنَّ الرّجل إلى يومنا هذا يرجع إلي في بعض المواقف، يتبادل الآراء ويستعرض الرؤى، يطرح المتاعب والهموم، مفكرًا بصوتٍ عالٍ، أو  مناقشًا معي الطموحات والنشاطات. أما أنا شخصيًا لم ادخر يومًا الوقت للذهاب إليه لأشرع أبواب القلب أمامه والحديث معه بقلبٍ مفتوح عن محن الحياة والخدمة من دون حرج أو حواجز. استشيره واستأنس برأيه، وهو كذلك. وهذه ثقة متبادلة أعتز بها.
  لقد ربطتني بعد وفاة والدي رحمه الله علاقة أبوة روحيّة أنا الكاهن أب الجميع مع قلة قليلة من البشر الانقياء على مدار العمر، يقع في طليعتهم الآب بطرس حدّاد رحمه الله، وشربل بعيني ويحيى السماوي. آمد الله بعمرهما.
   واعترف هنا على الصعيد الشخصي أنني وجدت في شربل الأديب الزاهد الذي ترك مجد العالم باحثًا عن مجد يسوع، وكاهنًا قرب الكثيرين من يسوع، فعندما يتذوق المرء المسيح في حياته سوف يختبر ويُخبّر الآخرين عنه فيكون من صيادي البشر. إنّه "أبونا شربل بعيني" أو "مار شربل" كما يحلو لي أن أناديه في الجلسات وأمام  بعض الأصدقاء.
      لشربل عالمه الأدبي والروحي الخاص، يشيع في روحه الارتياح، راحته تبدو بين مسبحة الكلمة وورديّة الصلاة، ولكن وحدته أحيانًا تؤجج فيه الآلام والأوجاع، حين يفلت من باطنه شيء الى فكره، فإن ذلك يسبب له الأحزان والأزمات الصحية.
   أسمع من كثيرين ممن ألقاهم، أنّ شربل لم يعدّ متواجدًا كما في السابق!.
فيأتي جوابي:
   إنّ هذا البعد جعلنا نلتمس لمس اليد  أنَّ مكانته وقيمته تتزايدان، كلّما افتقدنا التواضع والكلمة النزيهة والعبارة الصادقة والمواقف الشريفة والسلوك المُحبّ. فضلاً عن أن موهبة شربل تتجلى في صومعة الوحدة، وإن كان إنكفاؤه قد خلق فجوة في الوسط الأدبي بدأت تتسع وتتعمق، لكنه وحده القادر على ردمها أو تضييقها على الأقل. ورغم أنه أخـفى جراحات الوطن وعذابات الغربة وراءَ ستار وحدته، إلّا أن شربل يظهر ويشارك في الاماسي الأدبيّة ومناسبات الناس ويلتقي الأصدقاء كلّما اراد ذلك.
 ختامًا:
    كما أنّ أدب البعيني يكتنفه شيء من الغموض الجذاب، إذ يملك عنصر المفاجأة في وقفات مقاطعه الشّعريّة أو بقفلات قصائدة، كذلك هي حياته، فقد يبقي شربل بعض الجوانب معتمة من حياته ذات التضاريس المتعرجة، فيها حكايات لم تحكَ بعد.
   آمل أن ينشرها في سيرة ذاتيّة، سيّما ونحن جميعًا في قارب واحد نبحث عن مخرج من مأزق المنفى.
   ومن لا يعرف فأنّ شربل كتب الأدب باجناسه المتعددة، ما خلا أدب السّيرة الذاتيّة، وإنّني هنا لست أريد أن اقحم ذاتي  في إسداء النصيحة لأستاذي الجليل وأبي الروحي، لأن الإنسان بطبيعته يكره النصائح، ومَن أنا مِن ذلك  الآتي من ينابيعِ الحرف المعبّقة برائحة الأرز، ولأنني لا أستطيب توجيه النصائح ولا استسهلها، تراني إسدي الرأي قائلاً:
ـ يا ليت يقدم الأستاذ شربل على كتابة سيرته الذاتيّة، وحبذا لو توقّف طويلاً عند الإنقلاب الإيماني الذي حدث في حياته عقب وفاة والدته - رحمها الله – وأن لا يمر عليه مرور الكرام، مستذكرًا مقولة بولس الرسول: "الويل لي إن لم أبشر" (1قور 9/16).
اللهم إني قد بلغت!.
محبتي وجلّ تقديري وسؤالي الصلاة.
ـــــــــــ
 [1]  هناك كهنوت تمنحه الكنيسة لمن تصطفيهم من المدعوين، وهناك كهنوت يشترك فيه المؤمنون عامة بكهنوت المسيح الشامل، فرسالة المسيح ليست حصرًا على الأكليروس، فكلّ علماني مؤمن يعيش رسالة المسيح بحبّ وأمانة هو كاهن، وكلّ علمانيّة تحيا تعاليم الإنجيل هي راهبة.
**

http://charbelbainrassamalkalimat.blogspot.com.au/2016/02/blog-post_16.html