عندما التقيت الأب يوسف جزراوي لأول مرة، تساءلت في سرّي: هل من المعقول أن يلتحق بسلك الكهنوت شاب بهذه الوسامة؟
هل من المعقول أن يترك ملذات الدنيا التي يتهافت عليها الجميع لو لم تكن دعوته صحيحة ومتينة؟
ومرت الأيام، وبدأت أكتشف سرّ تمسكه بكهنوته، وتسخير أدبه ومعرفته وجاذبيته وعمره من أجل التبشير بكلام الانجيل المقدس.
وعندما طلب مني أن أتكلّم في حفل توقيع كتابه "المبدعون غرباء عن هذا العالم" 11/11/2011، وافقت دون تردد، إذ كيف لي أن أرفض، وأنا أمام كاهن قدّس نفسه، ليقدس كلمته، عله يرضى عليّ ويساعدني بمجابهة الخطايا التي تقرع بابي كل لحظة.
ولكي أنصف نفسي قبل أن أنصفه، رحت أطالع مؤلفاته بنهم شديد، كي أبني على سفوحها كلمة لا تزيد عن خمس دقائق فقط، حسب رغبته، وإليكم ما قلت:
أصحابَ السيادة، كهنتي الأجلاء، سيداتي.. سادتي
عندما طلب مني أبونا يوسف الجزراوي إلقاءَ كلمةٍ في هذه المناسبةِ الأدبيةِ الغارقةِ بالإيمانِ والتقوى، والمفعمةِ بالعلمِ والمعرفة، وافقت دون تردّد، وكيف لا أوافق وكتابُ (المبدعونَ.. غرباءٌ عن هذا العالم) لم يتركْ عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو شاعراً عانى ما عاناه نبيُّنا أيّوب إلا وسلّط الأضواءَ عليه، كي تَكْشِفَ لنا تلك الأضواءُ سيّئاتِ حياتِنا اليومية. فلقد أرادنا أن نتخّذَ من قصصِ الكبارِ عِبراً تُخلّصُ أنفسَنا من شَوائبِها، وتُعِدُّنا للفرحِ الآتي.
أجل، أيها السيداتُ والسادة، فلقد سارَ أبونا يوسف على خطى المعلّمِ الأكبر، ذاك الذي استعانَ في إنجيلِه المقدّس بالأمثالِ والقِصّصِ لتَصلَ كلماتُه إلى آذانِنا مفهُومةً، كما يصلُ الهواءُ المنعشُ إلى رئَتَيْنا دون استئذانٍ كي يمنَحَنا الحياة.
ذكرتُ معاناةَ نبيِّنا أيّوب، ولم أذكرْ معاناةَ (شهيدِ الحب) سيّدِنا ومخلّصِنا يَسوعَ المسيح، لأن معاناةَ النبي أيّوب كانت بشريّة، لم يطلُبْها بل فُرِضَت عليه، كما تُفْرَض علينا الأوجاعُ والمصائب. صحيح أن المسيحَ صُلِبَ ولكنّهُ إلهٌ اختارَ صلبَهُ ليُخَلِّصَنا، وإن طَلَبَ من أبيه السماوي أن يُبْعِدَ عنهُ هذه الكأس، فَهُوَ يعلَمُ أنه جاء دُنْيانا من أجلِ تلكَ الكأس.. ليسَ إلآّ. تماماً كما اختارَ أبونا يوسف كهنوتَه ليخلّص أنفسَ التائهين الضائعينَ في ملذاتٍ سَرابيةِ الوجود.. ما أن يتمسّكوا بها حتى يَخذلَهُم العمرُ.. ويواجِهوا الدينونة.. وصدقوني أن الأبانا يوسف يعلَم أن الكأسَ التي اختارَها، تفيضُ مرارةً، إذ ليس أصعبَ من أن يرَى الراعي الصالحُ قطيعَه تتناتَشُهُ الذئابُ وهو عاجزٌ عن إنقاذِه.
قِصَصُ الكتاب، كما قلت، زاخرةٌ بالعِبَر، فأبونا يوسف ينْبُشُ ما فَوْقَ الأرض وما تَحْتَها مِنْ أَجْلِ موعظةٍ يقدّمها لنا مُبَسَّطَةً كرغيف خبزٍ، ما أن يراهُ الجائعُ حتَّى يلتهمَهُ بصمتٍ وسعادة. فالجوعُ السماويُّ لا يشعرُ بهِ الإنسانُ إلاّ عَن طَريقِ كاهِنٍ طبّاخٍ، يعرفُ كيف يُعِدُّ وليمةً سماويةً تجذُبُ الجائعينَ إليها.. وَتُثَبِّتُ أَقدامَهم على طريق الخلاص.
الملفتُ حقاً في الكتاب هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا أيضاً ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه.
أشكرك يا أبانا يوسف مرتين، مرّة حين ائتمنتَني على مراجعة كتابِك لُغوياً، وأعتذر إذا فاتتني بعضُ الأخطاء، لأن جُلَّ مَنْ لا يخطِىء، ومرّة ثانية لأنّك طلبت منّي أن ألقِيَ هذه الكلمةَ، شرطَ أن لا تزيد عن خمْسِ دقائِق، ويا لًيْتَنِي لم أتقيّد بالوقتِ، لأن كتابَك ما زال يشدُّني إلى كلامٍ كثير.. وألف شكر لإصغائكم.
وما هي إلا سنوات مرت كأحلام سرابية، وتقاذفتها الأشجان والأحزان، لتتلاعب بنا تلاعب العاصفة بأوراق الشجر أيام الخريف، فإذا بالأب الجليل يتصل بي ليخبرني أنه بصدد اصدار كتاب جديد بعنوان "نخيلٌ في بستان الذّاكرة"، وطلب مني كلمة لغلافه الخلفي، فكتبت:
عندما يكتب مبدع كالأب يوسف جزراوي عن مبدعين اخرين تعرّف عليهم من خلال رحلته مع الكهنوت والقلم، تأكدوا من أنّ الكتاب سيكون غاية في الروعة. وهذا ما لمسته وأنا أتصفح أكثر من 280 صفحة تحتوي على معلومات وانطباعات مهمة عن ادباء ورجال دين وكتّاب وفنانين مقيمين ومغتربين، غمرهم الأب جزراوي بمحبته، وسلط عليهم الأضواء بتجرد وشفافية. هكذا عرفهم وهكذا عرّف بهم.
الملفت حقاً هو أسلوبه السهل الممتنع، الذي ينقلك على أجنحة الكلمات دون أن تشعر بأي تأفف أو ضجر، تسعفه في ذلك ثقافته العالية التي عرف كيف يسخّرها لنجاح هذا العمل النادر، خاصة فيما يتعلق بتسليط الأضواء على أقلام كادت أن تكسرها الغربة، وأن تحجب أصحابها، وتبعدهم عن محيطهم العربي أدبياً واجتماعياً.
الكتاب يحتوي على أسرار لم تكشف بعد، وعلى حالات نفسية للعديد من المبدعين قد لا يعرفها أحد، ولكن الجزراوي تمكن من كشفها دون أن يسيء لأصحابها، وكيف يسيء وهو يكرّمهم الواحد تلو الآخر. حتى أنا لم أسلم من شفرات يراعه، وكيف أسلم وقد رافقني لسنوات طويلة كظلي، وعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي، وعندما أطلعني على الكتاب قبل نشره، كي أكتب كلمة الغلاف، ضحكت وقلت: طوبى لأنقياء القلوب فإنهم أبناء الله يدعون. وصدقوني أنني لم أجد أنقى من قلب الأب يوسف جزراوي، الذي وهب نقاءه للناس ولهذا الكتاب الهام الرائع، وما عليكم إلا أن تطالعوه لتعرفوا ماذا اقصد.
فيا طبّاخ الكلمة، كما يحلو لي أن أناديك، بورك البطن الذي أنجبك، فمن يكرّم سيكرّم لا محالة. وأنت مكرّم بثوبك الكهنوتي وبقلمك الشامخ، فألف شكر لك.
فمن هو هذا الأب الأديب العلامة يوسف جزراوي؟
كاتبٌ وأديبٌ عراقي مغترب في أستراليا، مواليد بغداد 19/3/1978 .
خرّيجُ كلّيّةِ بابلَ الحبريّةِ للفلسفة واللاهوت/ بغداد 2005. حاصل على ديبلوم في الفلسفةِ وعلميّ الإجتماعي والانثروبولجي وبكلوريوس في اللاهوت.
خدم في بغداد والشام وهولندا وسيدني.
حطّ الرحال في أستراليا بتاريخ 26/12/2010
كاهن كنيسة المشرق الآشوريّة في سيدني.
نَشَرَ مقالات متفرقة في المجلاتِ التالية: نجم المشرق، بين النهرين التراثيّة، الفكر المسيحي، الحكمة، ربانوثا، قيثارة الروح، نجم بيث نهرين، رديا كلدايا، مجلة الطائفة الكلدانيّة في حلب.
ـ أحدُ كُتّاب صحيفة العراقيّةِ الأستراليّة، له عمود أسبوعي فيها منذ سنوات. حبّرَ مقالات في الصحف اللبنانية الصادرة في أستراليا (المستقبل، التلغراف، الأنوار).
له العديدُ من المقالاتِ والكتاباتِ في مواقع الانترنيت. ينفرد في نشر مقالاته في موقع الغربة الالكتروني.
- عضو اتحاد الكتّاب والأدباء السريان في العراق.
- رئيس رابطة البيّاتي للشعر والثقافة والأدب في أستراليا.
كرّمته مؤسسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون ضمن 20 شخصيّة ثقافيّة مبدعة (عراقيّة وعربيّة) في أستراليا عام 2012 ، وكذلك مؤسسة سواقي للثقافة والفنون عام 2014.
صدرَت له المؤلفات التالية:
ـ لا للهجرةِ 2000 إشراف المرحوم الأب يوسف حَبّي.
ـ ومضاتٌ من الحياة، بغداد 2000
ـ ومن الخلجات بعضُها، بغداد 2002
ـ على خطى يسوع (نُبذة تاريخيّة عن مراحل تأسيس الدير الكهنوتي في الموصلِ وانتقالِه إلى بغداد، بغداد 2003). مُراجعة الأب بُطرس حدّاد.
ـ البطريرك الخالد (البطريرك مار يوسف السادس أودو)، بغداد 2004
ـ سقراط ويسوع، بالتعاون مع الأب مازن حازم. إشراف الأب جوزيف الكبوتشي، بغداد 2004.
ـ دارُ البطريركيّةِ في بغداد، بغداد 2004
ـ كلمات من حياةِ إنسان، بغداد 2005
ـ كنيسة الحكمة الإلهية بين الأمس واليوم، بغداد 2006
ـ البطريركُ المُستقيل مار نيقولاس زيّا. كوردستان العراق 2007.
ـ تأمُّلات من حياةِ كاهن (40) تأمّلاً - القاهرة 2008 ط1.
ـ جزيرةُ أبنِ عمر، جزيرةُ الشهداء والإيمان (مُراجعة وتقديم الأب يوسف توما) تم نشرُه في الأنترنيت سنة 2008، وصدرت طبعته الاولى في سيدني 2011.
ـ تأمُّلات من حياة كاهن طبعة ثانية (60) تأمّلاً. العراق - كركوك 2009.
ـ قصص روحيّة واجتماعيّة للتأمّل والصلاة وحوار الذات.(مُراجعة وتقديم غبطة البطريرك مار لويس ساكو). هولندا 2009.
ـ ملحمةُ البحثِ عن النصف الآخر (تأمُّلات في أبعاد سرّ الزواج)، هولندا 2010 ط1. الطبعة الثانية دهوك – العراق. الطبعة الثالثة سيدني 2011.
ـ خلجاتُ الذاتِ الجريحةِ (خواطر في الإنسان والحياة ج1)، القاهرة 2010.
ـ قصص ومواعظ (تسعون قصّة وموعظة) ط 3 سيدني 2011.
ـ خلجات الذات الجريحة ج 2 سيدني 2011
ـ قصّةُ الحُبّ المؤثرة في رِحلة الرِحالة ديلافاليه، سيدني 2011.
ـ صفحات ناصعة، ط (1) امريكا 2011، ط (2) سيدني2011
ـ حياتُنا قصّة وعِبّرة، سيدني 2011
ـ المبدعون غرباء عن هذا العالم، سيدني 2011
ـ أوراقٌ مُتناثرة من تاريخ الكنيسة الكلدانيّة، سيدني 2011
ـ رِحلة البحث عن مغزى الحياة ط1/ سيدني 2012
ـ كتابُ العمر: (أفكار وتأمُّلات من تُراب)، سيدني 2013
ـ أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع، سيدني 2014.
ـ ملحمة كلكامش (قِراءةٌ جديدةٌ للمعاني الإنسانيّةِ في الملحمة)، طبعة ثانية، بغداد 2015.
ـ شربل بعيني رسام الكلمات، سيدني 2016
قيد الانجاز:
- يوميات الحرب العالمية الأوّلى للبطريرك يوسف عمّانوئيل الثاني. تحقيق الأب د. بُطرس حدّاد، تعلّيق ونشر: الأب يوسف جزراوي.
- (مواعظ) حسب السنة الطقسية لكنيسة المشرق الآشوريّة.
- بغداد عروس الشرق (مجموعة تأمّلات).
- النورس المُغترب (أدب الرحلات).
- صديق عمر أكاد أعدّ عليه انفاسه (أدب السّيرة الذاتيّة).
**
قلت له مداعباً يوم زارني برفقة الدكتور موفق ساوا صاحب جريدة العراقية:
ـ لن يبزّني بنشر الكتب إلا أنت يا أبانا يوسف.. فعمرك يسمح لك بذلك، وما أنتجته من مؤلفات حتى الآن خير دليل على صحة ما أقول.
وهذا لا يعني أنه يكتب بكثرة حباً بالشهرة، لا والله، بل اراه يختار مواضيع كتبه بدقة متناهية، ويعيد صياغتها بشكل مستمر، وكأنه نبع ماء رقراق يسارع الزمن كي يلتحق بنهر العطاء والابداع.
وحين طلب مني أن أكتب مقدمة كتابه الجديد، أجبته وأنا أغني مع فريد الأطرش، أغنيته المشهورة:
ـ بتؤمر ع الراس وع العين.
دون أن أعلم أن الكتاب الذي سأقدّمه كناية عن دراسة مستفيضة لرحلتي مع القلم، وما أن وصلتني مخطوطة الكتاب حتى أصبت بدوار ورحت أتمتم:
ـ كيف لي أن أكتب مقدمة لدراسة عن أدبي، ويحك يا أبانا يوسف، ماذا فعلت بي؟
الكتاب "الدراسة" عنوانه "شربل بعيني أسطورة الأدب المهجري"، فما كان مني إلا أن اتصلت به وطلبت منه تغيير العنوان، وإلا فليكتب مقدمته أحد غيري.
وعندما رأيت تمسكه بالعنوان، شكرته على محبته الغامرة، وتشجيعه المفرح، ورحت أشرح له الأسباب التي تدعوني لاستبداله بعنوان آخر لا يثير حفيظة البعض، كما أنني كشاعر لا أؤمن بالأساطير، فما كان منه إلا أن زيّن الكتاب بعنوان لن يخطر على بال أحد: "شربل بعيني رسّام الكلمات"، فضحكت في سري وقلت:
ـ هل الأبونا يوسف كاهن أديب أم شاعرٌ كهنوتي؟ كون العبارات التي يأتي بها قد لا تمر بخلد أحد.
يحلو له أن يناديني بـ"يا أبي"، ويحلو لي أن أناديه بـ"يا أبانا"، لأن اللقب الذي حاز عليه، لن يناله إلا من امتلك شجاعة التضحية بالنفس، والابتعاد عن الدنيويات، بغية ارتقاء عرش الكهنوت، الذي هو أسمى عرش على وجه الآرض.
وكيف لا تتوطد علاقتي بمن اتخذني أباً أدبياً، واتخذته أباً روحياً، وها هو يفرح لفرحي، ويحزن لحزني، فعندما كرمّت، كتب:
إلى نهر المحبة وأرز الإبداع، حضرة الأديب الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا، وصدقًا، وتعليمًا، وتواضعًا، وبراءةً. وهل هُناك من ضحكةِ محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني.
إنّك قلم المطافىء ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة.
مبارك التكريم المستحق، دمت نهر إبداع، ضفتيه القلم والمحبة. ألف مبروك. أطال الله بعمرك وامدك بصحةٍ لا تبلى. آمين.
تلميذك وإبنك الروحي دومًا.
وعندما حزنت على فقدان أخي الأصغر مرسال (ابو شربل)، رحمه الله، تألّم الأبونا معي نفسياً وروحياً وإنسانياً وأدبياً، فأبكى قلمه من أجلي، إذ قال:
بالعودة إلى خزانة الذّاكرة أجد إنّني قرأت اسمه لأوّل مرّة في موقع إيلاف، ثمَّ تناهى إلى سمعي صوته يوم عرّفني به الصحافي جوزاف أبو ملحم المحترم. وذلك يومٌ أعدّه من أسعد الأيّام وأكرمها لدي.
كان ذلك المساء مفتاحًا لحوارٍ جميل مع أديب أجمل، كان لقاءً اورق في النفس صحبة جميلة.
إنّ محبتي الكبيرة للشاعر المبدع شربل بعيني بدأت لحظة قرأت له "كتابات على حائط المنفى"، وكيف توسد الغربة سنوات طويلة، توسعت وازداد حجمها حين عرفته شخصيًا؛ إنسانيًا وأدبيًا.
إنسانيًا؛ لم أجد قلبًا طاهرًا مثل الذي يحمله، لسانه دائمًا عفيف مع ضمير مستقيم، إنكفأ على نفسه وترجل عن الكثيرين، لا يظهر إلّا في المناسبات التي يُريد، وحين يظهر تجد بيده عصا يمسك بها من المنتصف بمحبة واسعة وشاملة. وتلك لعمري خاصية لم نجد من يحملها إلّا القلة.
أما أدبيًا: تلقاه ابتعد عن الأسفاف والترهل في الكتابة، مسك على الدوام إبرة بارعة لنظم قصائده وحياكة كتاباته الإنسانيّة المفعمة بالرجاء.
اليوم عميدنا في الأدب المهجري شربل بعيني، يبكي رحيل أخيه الأصغر مرسال إلى دار البقاء عن عمرٍ يناهز الستين.
تترنّح الدموع في عينيه، وتغزو الحسرات قلبه الأبيض، حتّى أنّه بات يحدث المعزين ببحة صوت مخنوقة بدموعٍ عزيزة وغزيرة.
إلى شربل بعيني أقول: أيها الشاعر المؤمن تذكر إنّ الله إله احياء، أوَليس هو من قال في إنجيله المُقدّس: "أتيت لتكن لهم الحياة وتكون بوفرة". يوحنّا 10:10. اسمح لرجاء القيامة أن يشرق في اعماقك.
رحم الله الفقيد وأسكنه في ملكوته البهي وامدك بصحة لا تُبلى.
أبونا يوسف جزراوي، كاهن، أديب، فيلسوف، علامة وصديق بامتياز، وشرف كبير لجائزة شربل بعيني لعام 2016 أن تعلّق على صدره، باسم مؤسسها الدكتور المرحوم عصام حداد، وأسرة معهد الأبجدية في مدينة جبيل اللبنانية، ومؤسسة الغربة الاعلامية في سيدني أستراليا، وألف مبروك.
وشرف أعظم لي أن تنضم الى مكتبتي الأدبية دراسة رائعة من كاهن أروع، قد لا أفيه حقّه إلا بالصلاة كي يسدد الله خطاه، ويحميه على طريق الكهنوت والأدب.
شكراً يا أبانا..
**
هل من المعقول أن يترك ملذات الدنيا التي يتهافت عليها الجميع لو لم تكن دعوته صحيحة ومتينة؟
ومرت الأيام، وبدأت أكتشف سرّ تمسكه بكهنوته، وتسخير أدبه ومعرفته وجاذبيته وعمره من أجل التبشير بكلام الانجيل المقدس.
وعندما طلب مني أن أتكلّم في حفل توقيع كتابه "المبدعون غرباء عن هذا العالم" 11/11/2011، وافقت دون تردد، إذ كيف لي أن أرفض، وأنا أمام كاهن قدّس نفسه، ليقدس كلمته، عله يرضى عليّ ويساعدني بمجابهة الخطايا التي تقرع بابي كل لحظة.
ولكي أنصف نفسي قبل أن أنصفه، رحت أطالع مؤلفاته بنهم شديد، كي أبني على سفوحها كلمة لا تزيد عن خمس دقائق فقط، حسب رغبته، وإليكم ما قلت:
أصحابَ السيادة، كهنتي الأجلاء، سيداتي.. سادتي
عندما طلب مني أبونا يوسف الجزراوي إلقاءَ كلمةٍ في هذه المناسبةِ الأدبيةِ الغارقةِ بالإيمانِ والتقوى، والمفعمةِ بالعلمِ والمعرفة، وافقت دون تردّد، وكيف لا أوافق وكتابُ (المبدعونَ.. غرباءٌ عن هذا العالم) لم يتركْ عالماً أو فيلسوفاً أو أديباً أو شاعراً عانى ما عاناه نبيُّنا أيّوب إلا وسلّط الأضواءَ عليه، كي تَكْشِفَ لنا تلك الأضواءُ سيّئاتِ حياتِنا اليومية. فلقد أرادنا أن نتخّذَ من قصصِ الكبارِ عِبراً تُخلّصُ أنفسَنا من شَوائبِها، وتُعِدُّنا للفرحِ الآتي.
أجل، أيها السيداتُ والسادة، فلقد سارَ أبونا يوسف على خطى المعلّمِ الأكبر، ذاك الذي استعانَ في إنجيلِه المقدّس بالأمثالِ والقِصّصِ لتَصلَ كلماتُه إلى آذانِنا مفهُومةً، كما يصلُ الهواءُ المنعشُ إلى رئَتَيْنا دون استئذانٍ كي يمنَحَنا الحياة.
ذكرتُ معاناةَ نبيِّنا أيّوب، ولم أذكرْ معاناةَ (شهيدِ الحب) سيّدِنا ومخلّصِنا يَسوعَ المسيح، لأن معاناةَ النبي أيّوب كانت بشريّة، لم يطلُبْها بل فُرِضَت عليه، كما تُفْرَض علينا الأوجاعُ والمصائب. صحيح أن المسيحَ صُلِبَ ولكنّهُ إلهٌ اختارَ صلبَهُ ليُخَلِّصَنا، وإن طَلَبَ من أبيه السماوي أن يُبْعِدَ عنهُ هذه الكأس، فَهُوَ يعلَمُ أنه جاء دُنْيانا من أجلِ تلكَ الكأس.. ليسَ إلآّ. تماماً كما اختارَ أبونا يوسف كهنوتَه ليخلّص أنفسَ التائهين الضائعينَ في ملذاتٍ سَرابيةِ الوجود.. ما أن يتمسّكوا بها حتى يَخذلَهُم العمرُ.. ويواجِهوا الدينونة.. وصدقوني أن الأبانا يوسف يعلَم أن الكأسَ التي اختارَها، تفيضُ مرارةً، إذ ليس أصعبَ من أن يرَى الراعي الصالحُ قطيعَه تتناتَشُهُ الذئابُ وهو عاجزٌ عن إنقاذِه.
قِصَصُ الكتاب، كما قلت، زاخرةٌ بالعِبَر، فأبونا يوسف ينْبُشُ ما فَوْقَ الأرض وما تَحْتَها مِنْ أَجْلِ موعظةٍ يقدّمها لنا مُبَسَّطَةً كرغيف خبزٍ، ما أن يراهُ الجائعُ حتَّى يلتهمَهُ بصمتٍ وسعادة. فالجوعُ السماويُّ لا يشعرُ بهِ الإنسانُ إلاّ عَن طَريقِ كاهِنٍ طبّاخٍ، يعرفُ كيف يُعِدُّ وليمةً سماويةً تجذُبُ الجائعينَ إليها.. وَتُثَبِّتُ أَقدامَهم على طريق الخلاص.
الملفتُ حقاً في الكتاب هو وفاءُ الكاهنِ يوسُف لِمَن ساعدَهُ من بعيدٍ أو قريبٍ، وهذا ما لم نَعُدْ نَجِدْهُ في هذا الزمنِ التعيسِ، زمنِ الوصوليّةِ والغدر، وهذا أيضاً ما يُرَجِّحُ كَفَّةَ موعِظَتِه، ويجعَلُ المُتَلَقِّي يَرْضَخُ لها دون إدراكٍ منه.
أشكرك يا أبانا يوسف مرتين، مرّة حين ائتمنتَني على مراجعة كتابِك لُغوياً، وأعتذر إذا فاتتني بعضُ الأخطاء، لأن جُلَّ مَنْ لا يخطِىء، ومرّة ثانية لأنّك طلبت منّي أن ألقِيَ هذه الكلمةَ، شرطَ أن لا تزيد عن خمْسِ دقائِق، ويا لًيْتَنِي لم أتقيّد بالوقتِ، لأن كتابَك ما زال يشدُّني إلى كلامٍ كثير.. وألف شكر لإصغائكم.
وما هي إلا سنوات مرت كأحلام سرابية، وتقاذفتها الأشجان والأحزان، لتتلاعب بنا تلاعب العاصفة بأوراق الشجر أيام الخريف، فإذا بالأب الجليل يتصل بي ليخبرني أنه بصدد اصدار كتاب جديد بعنوان "نخيلٌ في بستان الذّاكرة"، وطلب مني كلمة لغلافه الخلفي، فكتبت:
عندما يكتب مبدع كالأب يوسف جزراوي عن مبدعين اخرين تعرّف عليهم من خلال رحلته مع الكهنوت والقلم، تأكدوا من أنّ الكتاب سيكون غاية في الروعة. وهذا ما لمسته وأنا أتصفح أكثر من 280 صفحة تحتوي على معلومات وانطباعات مهمة عن ادباء ورجال دين وكتّاب وفنانين مقيمين ومغتربين، غمرهم الأب جزراوي بمحبته، وسلط عليهم الأضواء بتجرد وشفافية. هكذا عرفهم وهكذا عرّف بهم.
الملفت حقاً هو أسلوبه السهل الممتنع، الذي ينقلك على أجنحة الكلمات دون أن تشعر بأي تأفف أو ضجر، تسعفه في ذلك ثقافته العالية التي عرف كيف يسخّرها لنجاح هذا العمل النادر، خاصة فيما يتعلق بتسليط الأضواء على أقلام كادت أن تكسرها الغربة، وأن تحجب أصحابها، وتبعدهم عن محيطهم العربي أدبياً واجتماعياً.
الكتاب يحتوي على أسرار لم تكشف بعد، وعلى حالات نفسية للعديد من المبدعين قد لا يعرفها أحد، ولكن الجزراوي تمكن من كشفها دون أن يسيء لأصحابها، وكيف يسيء وهو يكرّمهم الواحد تلو الآخر. حتى أنا لم أسلم من شفرات يراعه، وكيف أسلم وقد رافقني لسنوات طويلة كظلي، وعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي، وعندما أطلعني على الكتاب قبل نشره، كي أكتب كلمة الغلاف، ضحكت وقلت: طوبى لأنقياء القلوب فإنهم أبناء الله يدعون. وصدقوني أنني لم أجد أنقى من قلب الأب يوسف جزراوي، الذي وهب نقاءه للناس ولهذا الكتاب الهام الرائع، وما عليكم إلا أن تطالعوه لتعرفوا ماذا اقصد.
فيا طبّاخ الكلمة، كما يحلو لي أن أناديك، بورك البطن الذي أنجبك، فمن يكرّم سيكرّم لا محالة. وأنت مكرّم بثوبك الكهنوتي وبقلمك الشامخ، فألف شكر لك.
فمن هو هذا الأب الأديب العلامة يوسف جزراوي؟
كاتبٌ وأديبٌ عراقي مغترب في أستراليا، مواليد بغداد 19/3/1978 .
خرّيجُ كلّيّةِ بابلَ الحبريّةِ للفلسفة واللاهوت/ بغداد 2005. حاصل على ديبلوم في الفلسفةِ وعلميّ الإجتماعي والانثروبولجي وبكلوريوس في اللاهوت.
خدم في بغداد والشام وهولندا وسيدني.
حطّ الرحال في أستراليا بتاريخ 26/12/2010
كاهن كنيسة المشرق الآشوريّة في سيدني.
نَشَرَ مقالات متفرقة في المجلاتِ التالية: نجم المشرق، بين النهرين التراثيّة، الفكر المسيحي، الحكمة، ربانوثا، قيثارة الروح، نجم بيث نهرين، رديا كلدايا، مجلة الطائفة الكلدانيّة في حلب.
ـ أحدُ كُتّاب صحيفة العراقيّةِ الأستراليّة، له عمود أسبوعي فيها منذ سنوات. حبّرَ مقالات في الصحف اللبنانية الصادرة في أستراليا (المستقبل، التلغراف، الأنوار).
له العديدُ من المقالاتِ والكتاباتِ في مواقع الانترنيت. ينفرد في نشر مقالاته في موقع الغربة الالكتروني.
- عضو اتحاد الكتّاب والأدباء السريان في العراق.
- رئيس رابطة البيّاتي للشعر والثقافة والأدب في أستراليا.
كرّمته مؤسسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون ضمن 20 شخصيّة ثقافيّة مبدعة (عراقيّة وعربيّة) في أستراليا عام 2012 ، وكذلك مؤسسة سواقي للثقافة والفنون عام 2014.
صدرَت له المؤلفات التالية:
ـ لا للهجرةِ 2000 إشراف المرحوم الأب يوسف حَبّي.
ـ ومضاتٌ من الحياة، بغداد 2000
ـ ومن الخلجات بعضُها، بغداد 2002
ـ على خطى يسوع (نُبذة تاريخيّة عن مراحل تأسيس الدير الكهنوتي في الموصلِ وانتقالِه إلى بغداد، بغداد 2003). مُراجعة الأب بُطرس حدّاد.
ـ البطريرك الخالد (البطريرك مار يوسف السادس أودو)، بغداد 2004
ـ سقراط ويسوع، بالتعاون مع الأب مازن حازم. إشراف الأب جوزيف الكبوتشي، بغداد 2004.
ـ دارُ البطريركيّةِ في بغداد، بغداد 2004
ـ كلمات من حياةِ إنسان، بغداد 2005
ـ كنيسة الحكمة الإلهية بين الأمس واليوم، بغداد 2006
ـ البطريركُ المُستقيل مار نيقولاس زيّا. كوردستان العراق 2007.
ـ تأمُّلات من حياةِ كاهن (40) تأمّلاً - القاهرة 2008 ط1.
ـ جزيرةُ أبنِ عمر، جزيرةُ الشهداء والإيمان (مُراجعة وتقديم الأب يوسف توما) تم نشرُه في الأنترنيت سنة 2008، وصدرت طبعته الاولى في سيدني 2011.
ـ تأمُّلات من حياة كاهن طبعة ثانية (60) تأمّلاً. العراق - كركوك 2009.
ـ قصص روحيّة واجتماعيّة للتأمّل والصلاة وحوار الذات.(مُراجعة وتقديم غبطة البطريرك مار لويس ساكو). هولندا 2009.
ـ ملحمةُ البحثِ عن النصف الآخر (تأمُّلات في أبعاد سرّ الزواج)، هولندا 2010 ط1. الطبعة الثانية دهوك – العراق. الطبعة الثالثة سيدني 2011.
ـ خلجاتُ الذاتِ الجريحةِ (خواطر في الإنسان والحياة ج1)، القاهرة 2010.
ـ قصص ومواعظ (تسعون قصّة وموعظة) ط 3 سيدني 2011.
ـ خلجات الذات الجريحة ج 2 سيدني 2011
ـ قصّةُ الحُبّ المؤثرة في رِحلة الرِحالة ديلافاليه، سيدني 2011.
ـ صفحات ناصعة، ط (1) امريكا 2011، ط (2) سيدني2011
ـ حياتُنا قصّة وعِبّرة، سيدني 2011
ـ المبدعون غرباء عن هذا العالم، سيدني 2011
ـ أوراقٌ مُتناثرة من تاريخ الكنيسة الكلدانيّة، سيدني 2011
ـ رِحلة البحث عن مغزى الحياة ط1/ سيدني 2012
ـ كتابُ العمر: (أفكار وتأمُّلات من تُراب)، سيدني 2013
ـ أحاديث قلم في مرايا الذات والمجتمع، سيدني 2014.
ـ ملحمة كلكامش (قِراءةٌ جديدةٌ للمعاني الإنسانيّةِ في الملحمة)، طبعة ثانية، بغداد 2015.
ـ شربل بعيني رسام الكلمات، سيدني 2016
قيد الانجاز:
- يوميات الحرب العالمية الأوّلى للبطريرك يوسف عمّانوئيل الثاني. تحقيق الأب د. بُطرس حدّاد، تعلّيق ونشر: الأب يوسف جزراوي.
- (مواعظ) حسب السنة الطقسية لكنيسة المشرق الآشوريّة.
- بغداد عروس الشرق (مجموعة تأمّلات).
- النورس المُغترب (أدب الرحلات).
- صديق عمر أكاد أعدّ عليه انفاسه (أدب السّيرة الذاتيّة).
**
قلت له مداعباً يوم زارني برفقة الدكتور موفق ساوا صاحب جريدة العراقية:
ـ لن يبزّني بنشر الكتب إلا أنت يا أبانا يوسف.. فعمرك يسمح لك بذلك، وما أنتجته من مؤلفات حتى الآن خير دليل على صحة ما أقول.
وهذا لا يعني أنه يكتب بكثرة حباً بالشهرة، لا والله، بل اراه يختار مواضيع كتبه بدقة متناهية، ويعيد صياغتها بشكل مستمر، وكأنه نبع ماء رقراق يسارع الزمن كي يلتحق بنهر العطاء والابداع.
وحين طلب مني أن أكتب مقدمة كتابه الجديد، أجبته وأنا أغني مع فريد الأطرش، أغنيته المشهورة:
ـ بتؤمر ع الراس وع العين.
دون أن أعلم أن الكتاب الذي سأقدّمه كناية عن دراسة مستفيضة لرحلتي مع القلم، وما أن وصلتني مخطوطة الكتاب حتى أصبت بدوار ورحت أتمتم:
ـ كيف لي أن أكتب مقدمة لدراسة عن أدبي، ويحك يا أبانا يوسف، ماذا فعلت بي؟
الكتاب "الدراسة" عنوانه "شربل بعيني أسطورة الأدب المهجري"، فما كان مني إلا أن اتصلت به وطلبت منه تغيير العنوان، وإلا فليكتب مقدمته أحد غيري.
وعندما رأيت تمسكه بالعنوان، شكرته على محبته الغامرة، وتشجيعه المفرح، ورحت أشرح له الأسباب التي تدعوني لاستبداله بعنوان آخر لا يثير حفيظة البعض، كما أنني كشاعر لا أؤمن بالأساطير، فما كان منه إلا أن زيّن الكتاب بعنوان لن يخطر على بال أحد: "شربل بعيني رسّام الكلمات"، فضحكت في سري وقلت:
ـ هل الأبونا يوسف كاهن أديب أم شاعرٌ كهنوتي؟ كون العبارات التي يأتي بها قد لا تمر بخلد أحد.
يحلو له أن يناديني بـ"يا أبي"، ويحلو لي أن أناديه بـ"يا أبانا"، لأن اللقب الذي حاز عليه، لن يناله إلا من امتلك شجاعة التضحية بالنفس، والابتعاد عن الدنيويات، بغية ارتقاء عرش الكهنوت، الذي هو أسمى عرش على وجه الآرض.
وكيف لا تتوطد علاقتي بمن اتخذني أباً أدبياً، واتخذته أباً روحياً، وها هو يفرح لفرحي، ويحزن لحزني، فعندما كرمّت، كتب:
إلى نهر المحبة وأرز الإبداع، حضرة الأديب الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا، وصدقًا، وتعليمًا، وتواضعًا، وبراءةً. وهل هُناك من ضحكةِ محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني.
إنّك قلم المطافىء ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة.
مبارك التكريم المستحق، دمت نهر إبداع، ضفتيه القلم والمحبة. ألف مبروك. أطال الله بعمرك وامدك بصحةٍ لا تبلى. آمين.
تلميذك وإبنك الروحي دومًا.
وعندما حزنت على فقدان أخي الأصغر مرسال (ابو شربل)، رحمه الله، تألّم الأبونا معي نفسياً وروحياً وإنسانياً وأدبياً، فأبكى قلمه من أجلي، إذ قال:
بالعودة إلى خزانة الذّاكرة أجد إنّني قرأت اسمه لأوّل مرّة في موقع إيلاف، ثمَّ تناهى إلى سمعي صوته يوم عرّفني به الصحافي جوزاف أبو ملحم المحترم. وذلك يومٌ أعدّه من أسعد الأيّام وأكرمها لدي.
كان ذلك المساء مفتاحًا لحوارٍ جميل مع أديب أجمل، كان لقاءً اورق في النفس صحبة جميلة.
إنّ محبتي الكبيرة للشاعر المبدع شربل بعيني بدأت لحظة قرأت له "كتابات على حائط المنفى"، وكيف توسد الغربة سنوات طويلة، توسعت وازداد حجمها حين عرفته شخصيًا؛ إنسانيًا وأدبيًا.
إنسانيًا؛ لم أجد قلبًا طاهرًا مثل الذي يحمله، لسانه دائمًا عفيف مع ضمير مستقيم، إنكفأ على نفسه وترجل عن الكثيرين، لا يظهر إلّا في المناسبات التي يُريد، وحين يظهر تجد بيده عصا يمسك بها من المنتصف بمحبة واسعة وشاملة. وتلك لعمري خاصية لم نجد من يحملها إلّا القلة.
أما أدبيًا: تلقاه ابتعد عن الأسفاف والترهل في الكتابة، مسك على الدوام إبرة بارعة لنظم قصائده وحياكة كتاباته الإنسانيّة المفعمة بالرجاء.
اليوم عميدنا في الأدب المهجري شربل بعيني، يبكي رحيل أخيه الأصغر مرسال إلى دار البقاء عن عمرٍ يناهز الستين.
تترنّح الدموع في عينيه، وتغزو الحسرات قلبه الأبيض، حتّى أنّه بات يحدث المعزين ببحة صوت مخنوقة بدموعٍ عزيزة وغزيرة.
إلى شربل بعيني أقول: أيها الشاعر المؤمن تذكر إنّ الله إله احياء، أوَليس هو من قال في إنجيله المُقدّس: "أتيت لتكن لهم الحياة وتكون بوفرة". يوحنّا 10:10. اسمح لرجاء القيامة أن يشرق في اعماقك.
رحم الله الفقيد وأسكنه في ملكوته البهي وامدك بصحة لا تُبلى.
أبونا يوسف جزراوي، كاهن، أديب، فيلسوف، علامة وصديق بامتياز، وشرف كبير لجائزة شربل بعيني لعام 2016 أن تعلّق على صدره، باسم مؤسسها الدكتور المرحوم عصام حداد، وأسرة معهد الأبجدية في مدينة جبيل اللبنانية، ومؤسسة الغربة الاعلامية في سيدني أستراليا، وألف مبروك.
وشرف أعظم لي أن تنضم الى مكتبتي الأدبية دراسة رائعة من كاهن أروع، قد لا أفيه حقّه إلا بالصلاة كي يسدد الله خطاه، ويحميه على طريق الكهنوت والأدب.
شكراً يا أبانا..
**

