الفصل الرابع

 ـ4ـ
    كنتُ قد التقيتُ في سيدني للمرّة الأوّلى الأستاذ بطرس عنداري- رحمه الله- في حفلِ توقيع كتب الكاتب المصري أنطوني ولسن عام 2011، فكانت فرصة طيبة  للتعارف وتبادل وجهات النظر، حيث تعرفنا على بعضنا البعض بشكلٍ مباشر. إذ لم أكن أعرفه من قبل إلّا عن طريق أحاديث الأستاذ شربل بعيني، وبواسطة كتاباته في موقع "الغربة" وبعض صحف الجالية. عقب أن دارت الايام دورتها، وإذا كنا في مطلع عام 2012، التقينا يومًا في مناسبةٍ ما قبيل وفاته المفاجئة بشهور معدودة، وعلى ما اذكر  توجهت إليه بالقول مازحًا:
ـ اعانك الله على شربل، كنتَ تهرب منه نحو الشوارع العامة، وإذا به يستدرجك إلى الطرقات الفرعيّة خلال مقابلتك معه على تلفزيون الغربة.
   ابتسم "عنداري" ابتسامة دلّت على أن الأمر لا يعنيه، وسكتنا. ثمَّ دار الحديث عن مواضيعَ أخرى. وحين هممت بالانصراف والعودة إلى ادارجي، حيث كنتُ أجلس مع مجموعة من أبناء بلدي في تلك الأمسية، لاحت منه التفاتة إليّ، وحدثني والابتسامة تعلو محياه قائلاً:
ـ "شربل من أعز الأصدقاء، قرأت مقالك عنه، أشعر أنَ شربل يستذكر همته وشبابه وغربته بك. جرب يا أبانا أن تكتب عن غربته، وكيف بدد وحشتها بالكلمة البيضاء".
   وأردف قائلاً: 
ـ "حاول فهذه اضافة ستحسب لك وله".
قلت له:
ـ لماذا؟.
أجاب:
ـ "كي لا ننسى".
   حقيقةً لم أعر  للأمر اهتمامًا يُذكر على مدار السنوات الماضية، إلى أن وقعت يدي قبل بضعة أيام وأنا اتنقل بين خزانة كتبي المبعثرة على دفترٍ  للملاحظات، كنتُ قد دوّنت فيه محطاتٍ واحداثًا من حياتي في سيدني، وقد عثرت على هذه الذكرى مع الراحل بطرس عنداري!. فقلت في سري لِمَ لا، واستسلمت لرأيه، خاصّة وأنّ الكتابة تتزامن مع إصدار كتابي "شربل بعيني رسّام الكلمات". وكي لا ننسى، هأنذا اسطر بالكلمات حصيلة تسامري مع كتابات شربل.
   قد لا أذيع جديدًا بقولي، إنّ الكلمة الشفويّة والمدونة  كانت ولم تزل أداة تواصل وخلق بين الكاتب ومحيطه من جهة، وبين عالمه الداخلي والخارجي من جهة أخرى، وهي أيضًا جسرٌ بين المنفى والوطن، بل ترجمة لما يشاع في الاعماق من أفكار ومشاعر وخلجات.  هكذا هي الحال مع شربل، فحين هاجر "إبن مجدليا[1]" إلى أستراليا واستوطن فيها، لم يحزم أمانيه في حقائب الهجرة وحسب، بل احضر معه موهبته وأدبه وشعره الزجلي[2] والعمودي. وكأي مغترب، نشأ لديه منذ أن حطَّ الرحال في أستراليا شعورٌ من الاغتراب عن هذه الأرض الجديدة، ربّما تناقص هذا الشعور مع مرّ السنين بواسطة الكلمة، لا سيّما بقدوم اهله إلى سيدني واشتغاله في المشهد الثقافي اللبناني والعربي.
   عام 1971 هاجر شربل من لبنان حاملاً خيبته من وطنه. جاء الى سيدني تاركًا خلفه وطنًا اَلفَ الصراعات السياسيّة وشهد خليطًا مروعًا من الدماء والدموع. إنّها مأساة لبنان ويا لها من مأساة!.
   في سيدني قدّم أوراق اعتماده إنسانيًا وأدبيًا بالشكل المطلوب، فلموهبته الشّعريّة اجنحة لا تحدها دواوين. وما بين لوعة الفراق عن الوطن الأمّ ودهشة الإكتشاف في المجتمع الجديد، شعر شربلنا بأنَّ لديه أفكارًا  كثيرة يريد أن يراها على صفحات الصحف والكتب؛ في داخله ابداع، وأنّ القادم من عمره يحمل انجازات، فتفجر كالبركان، حتّى بات صوتًا شجيًا وكلمةً مؤثرة في الشعر المهجري لا يمكن القفز فوقهما. مع السنين بدأت رحلته مع النجوميّة والشهرة والإبداع، تاجرًا وأديبًا وشاعرًا ومحررًا في الصحف ومعلمًا للغة العربيّة. ولكن لهذه الرحلة قصّة.
   إنّ الأديب السائح يختلف جذريًا عن الأديب المغترب، فالثاني يكتب بقلمٍ  مغترب ممتلئ بالمشاعر السلبيّة كالعزلة والغربة والحنين إلى مسقط رأسه، أما الأوّل فيسطر قلمه مشاهدات بيضاء بعين السائح المكتشف، لينقل إلى أبناء وطنه ما لم يتسنَ لهم رؤيته. ولكن قصّة الأدب البعيني هي قصّة صراع شّاعر هاجر من بلده قسرًا بسبب الشّعر، أتخذ من الشّعر  أحيانًا سلاحًا يهدف به  تحرير بلاده من سطوة الساسة الجائرين، إذ قاد مقاومة شرسة أو حملة توعية إنْ صح القول ضد الحرب الأهلية في لبنان بواسطة اشعاره، فلا أجد غرابة في القول أنّ شربل كان شّاعر الصحوة الوطنيّة من سجن الاغتراب الأسترالي. وأحيانًا أخرى استشف من كتاباته كفاحه ضد تيارات الغربة وامواجها، يطفو فوقها بالتمرن على تقبّلها أو بمحاولة الاستعلاء عليها في قارب الشعر.
   أفلستم معي إذا قلت: إنّ الكلمة حقل ألغام، ينجو كاتبها من حفرةٍ ليقع في غيرها، وما أن يستبشر انقشاع ظلام رقيب متملق لحاكم الوطن الأرعن، حتّى يغرق في مستنقع الرقيب الاجتماعي المتحفظ، سواءً في الوطن أو المهجر، الذي هو أشد حلكة، إلى أن تبعث كتاباته فينا مثل سوداويّة تُترجم وتؤرخ معاناته، على اعتبار أنّ الكلمة انعكاس لصاحبها، بل هي صدى لاعماقه أو  وصفٌ  للمشاعر الذاتيّة أو الجروح الشخصيّة، إن لم أقل رسالة توعية ونداء استغاثة؛ كاستغاثات السفن قبل الغرق!، فلغة الوعي هي أكثر اللغات بلاغة، وانين المنفى هو أشدّ الأصوات دويًا. لكن أدب شربل له ميزة أخرى هي لا محدوديته، أيّ انفلاته من قيود الزمان والمكان، فلم ينشر كتابات تُشيع مناخ الاحباط إلّا ما ندر، بل على العكس، وكأنه كالشمس المشرقة على القارئ بحرارتها اللسعة وضيائها البهي. كان ولم يزل شّاعرًا ذا قدرة بارعة على تقصي مشاهد الغربة اليوميّة والتقاط تفاصيلها ودقائقها بعدسة الكلمة، طارحًا الحلول للإفلات من شرنقتها.
   كان حلم شربل في الوطن أن يكونَ محاميًا إلى جانب الشعر، وها هو بعد غربةٍ طويلة يعيش عَبرَ اشعاره المحاماة، من قارة تعلي من قيمة الإنسان؛ ففي رأيه أنّ الشّعر والمحاماة كلاهما يدافعان عن حقوق الإنسان ويهاجمان الظلم ويحققان العدالة. ولأن الشّعرّاء الكبار، لا يسعون إلى الكلمات فيستعينون بها، بل هي تتولد من قاموس المخيلة جلية واضحة، نراه استفرد في بعض قصائده وكتاباته ألفاظًا معدودة في وصف مساوىء الحالة في لبنان، والدفاع عن الإنسان الكوني في محكمة الشعر، وكأني به سار على خطى أبي النوّاس والاخطل الصغير ومظفر النواب ونزار قباني، لأنه نبَذَ سياسة تكميم الافواه، وقرَفَ لغة السلاح ورعونة الحُكّام وانهار الدم في لبنان والوطن العربي، فجاءت قصائده: "قرف" و"لعنة الله علينا" و"طفل البحر"  كجرس انذار للحكومات، بمفردات يراها البعض من القرّاء والنقاد نابية، لعلّها تكون عاكسة  لقساوة الحالة التي وصلت إليها الحياة في بلداننا المنكوبة بحكامها!.
   بقلمٍ يرعد ويبرق من سماء سيدني على أرض لبنان كتب قصيدته مش رح صدق:
مش رح صدق
إنو بلادي صارت غابة،
وأنو شعبي تحول طابه.
   وفي قصيدة "يمين ويسار"، يرسل رسالة إستغاثة مفادها:
أنا ما بفهم يمين
أنا ما بفهم يسار
أنا بفهم ان النار
لازم توقف مهما صار.
   هكذا أجتهد شربل على مدار معرفتي به إن لم أقل على مدار سنوات عمره الأدبي الذي يقارب النصف قرن على التأكيد بأنّ رفض الآخر هو أصل كلّ المصائب، والحل يكمن في الحبّ، الذي يعرف كلّ النقائص ومع ذلك لا يزال يملك القدرة والشجاعة على العطاء دون مقابل. فنقرأ له بقلم الواعظ في  أحد  دواوينه العامية الصادر في سيدني ما يُرجح رأينا السابق:
خلينا بهالدنيي إخوه
نعيش ونحن متفقين
من محبتنا بتخلق قوّه
   إنّه الحُبّ، تلك الفضيلة التي أطلَّ بها شربل على الآخرين إنسانيًّا وأدبيًّا، من غربةٍ حمل ثقل ايامها الترحة والمرحة على كتفيه، دون أن تحني رأسه وقامته.
   من المعروف إنّ  معظم حملة الأقلام من الشعرّاء والكتّاب والأدباء والصحفيين وغيرهم من العرب والسريان في الشرق، قد ابتلوا بوَبَاء الفقر، واصابتهم معضلة أزليّة قد تبدو أبديّة وهي اضطهادهم من قبل حُكّام بلدانهم الأصليّة والموالين لهم في أجهزة الرقابة، ناهيك عن مقصّ المجتمع الحاد ومِنشَار العادات وسِكّين التقاليد، لأننا شعوب (ليس الجميع) تعارض الجديد والتجديد، تبني أحكامها على السمع والقيل والقال، يطيب لها التهويل والتأويل، دون اللجوء إلى تقصي الحقائق من كُتّابها أو عن طريق مبدأ التجربة والاستفسار، لهذا ترانا دائمًا نقع في فخّ الإنطباعات المسبقة ونقنع بالأحكَام السريعة التي تأتينا من هذا وذاك، فنشنق كُتّاب الكلمة وناطقيها على مقاصل الإنتقاد أو نصلبهم على جلجلة التقبيح، من دون التعكز على عامل الزمن، لأننا لا نُجيد اللعب بعنصري التّأنّي والاستيضاح، اللذين أصبحا في حدّ ذاتهما بُعدًا فاعلًا في غربلة ما يشاع وازالة الالتباس. لهذا انّ لحمَّلة الأقلام غير التقليدين مُعاناة، إمّا بسبب طروحاتهم التقدميّة التي تجاوزت الخطوط الحمراء، أو جرّاء اقلامهم الباسقة كاشجارٍ مثمرةٍ بالكلمة الحرّة البنّاءة، ورغم كلّ ما ينتابهم من متاعب، نجدهم يصهلون كالفرسان في ميدان الكلمة.
   وشربل على شاكلة ذلك الطراز، ففي وطنه والغربة عصفت به رياح تلك المعضلة، بسبب الشعر، لكنها لم تثنه منسحبًا. 
   وهنا أَوّد ان الفت النظر إلى حقيقة مؤداها، حين توسدتُ المنفى الأسترالي وعرفت شربل عن قربٍ في أسعد أوقات حياته وعاصرته في أقسى لحظات عمره أيضًا، رأيته واحدًا من أكثر من عرفت في حياتي تماسكًا في دوامة الوجود والقدرة على الشفاء من الانتكاسات وتخطي  الصعاب وتجاوز الاحباطات وتعدي العقبات والتغلب على العراقيل ومقارعة أزمات الحياة القاسيّة، يملك رغبة صلبة في استمرار العطاء بِلا توقف، رغم شيوع المنافسات غير الشريفة ومؤامرات أعداء النجاح وغدر الغادرين في خندق الأدب وميدان الأيام!. 
    قوي الحجة واسع البرهان، يعرف كيف يرد على هجاء المنتقدين بتهكمات لاذعة ومنطقية، تصبح حديثًا للجالية في ليلةٍ وضحاها!.
   وهنا وجب عليَّ الإستشهاد بقصيدته: "لا لم تمت"، لأدعم ما ذهبت إليه اعلاه:
فحّت بقربكَ ألسُنٌ مسمومةٌ
فلَجَمْتَ بالخُلُقِ الرفيعِ الألسُنا
وأذاقَك الحسّاد ظلماً موجعاً
فهَزَمْتَهم... وكشفتَ وجهَ المَلعنه
مرضى.. ولكن مَنْ يُداوي خبثَهُمْ؟
كفرتْ بهم شمسُ العقولِ المؤمنه
يتسابقُ المغرورُ نحو مناصبٍ
من كثرةِ الأطماعِ صارتْ مُنتنه
يعطيكَ سِناً..إنْ رفعتَ لِواءهُ
وإذا رفضتَ.. فمنه تأتي الشيطنه"[3].
   لم يجنِ شربل من الأدب سوى المتاعب ومشقات الشهرة وهجاء بعض الزملاء، ولم يسعفه الشعر في تكديس خزانته بالأموال، بل استنزفه الأدب ماديًا وصحيًا ما فتح ورزق، جلّ ما فعله أَنفَقَ الأموال على طباعة أدبه، مع وضع "فلس الأرملة" في جيب هذا الشاعر وذلك الأديب لأجل نشر أدب مهجري مرموق.
   كان يمكنه ان يعيش حياة أكثر هدوءًا وسلامًا، ولكن ذلك الجهبذ من جهابذة الشعر العربي الحديث، اختار دائمًا أنْ يكونَ صوتًا لمن لا صوت له، وأنْ يُعبِّر عن قناعاته حول موضوعات شائكة وشاقة بضميرٍ حي، مهما كان الثمن غاليًا والتكلفة باهظة. في قلمه مرآة نرى فيها زوايانا المظلمة وحماقات الوجود، يدافع عن الحقيقة والغايات النبيلة مهما كانت التضحيات. وفي ظني هنا تكمن رسالة الأديب والشاعر والصحفي الحقيقي، لأن الكلمة الصادقة  ليست رداءً نرتديه حين نريد، ثمَّ نتخلى عنه حين نشاء، إنّما هي قضية حياة ومصل دم يجري في عروقنا.
   وقد لا يغيب عن العارفين أنّ شربل بعيني منذ قدومه إلى بلاد الكنغر لم يتقاضَ دولارًا واحدًا من إِعانات الحكومة المُخصصة للاجئين الأجانب، سوى عندما بلغ سنّ التقاعد القانونيّة مؤخرًا[4]، فمنذ سنوات غربته الأوّلى طاله الثراء، ولكن ليس من الشعر!، بل من التجارة الحُرّة، فغربة شربل بعيني حسب ما دَوّنَ قلمه هي غربة التهميش وتسفيه الخيارات وقحط الإهتمام، فنقرأ له:
   "حياة الشعراء، وإن لبسوا الفرو الثمين، تظل محفوفة بالمخاطر، ومشبعة بالألم، فكم بالحري إذا لم يجدوا عملاً في مسقط رأسهم، ولم يتمكنوا من الهرب إلى وطن آخر يأويهم، مع العلم انهم يعيشون الغربة في وطنهم، فلسوف يلجأون إلى بيع كلّ ما يملكون، وهل يملك الفقير غير جسده، ليبيعه عضواً عضواً ... كي لا يبيع أطفاله"[5].
   على ما يبدو أنّ الغربةَ في كتابات شربل لم تكن مجرد مشكلة عويصة يجب التعامل معها، بل تحدٍ لصنع الذات ورسم ملامحها بشكلٍ يبهر النظر ويرضي الضمير ويشرف البلاد التي لفظته على يد أشباح المكتب الثاني، فقد عبّرت كتاباته عن حقبةٍ مهمةٍ في تاريخ المجتمع الأسترالي الأغترابي، رافضًا أن تقفَ كلمته عارية لا هدف يحدوها، فكان الصوت الهادي في برية الجالِيَة وادغال الاغتراب. كما كتاباته فيها الحنين والتغني بوطنه، بعضها يوحي برفض الانسلاخ عن أرضه وبيئته، وبعضها الاخر يروي احساسه بالغربة الطويلة وادانة حمام الدم في لبنان.
   كان شربل رمزًا بارزًا من رموز ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين في المنفى الأوزي ولا يزال إلى أيامنا هذه بثقله الأدبي، وإن اصبح مُقلاً في النّشر بالصحف وفي حضور الأماسي الأدبيّة.
   في تلك الأزمنة وهي الفترة التي بدأ فيها تبلور أدب مهجري اغترابي، كانت الجالية العربيّة الأستراليّة قد تحسست هويتها الثقافيّة الاغترابيّة بفضل الكثيرين، يُعدّ شربل من ابرزهم[6] ، وكأن ملامح الرابطة القلميّة أو العصبة الأندلسيّة في أمريكا بدأت تشق طريقها إلى أستراليا.
   وقد يختلف أو يتفق معي القرّاء حول صحة الرأي الآتي، ولكني على يقين لا يتاخم الشك أنّ الأدباء والكتّاب والشعرّاء الأصلاء سيقفون معي على أرضيّةِ التوافق بما أقول:  لقد اختلفت مهمة مُصدري الكلمة البنّاءة في هذه السنوات عمّا كانت عليه في العقود السابقة، أيام كانت الكلمة أكثر فعاليّةً وتأثيرًا في نشر القيم والأفكار ورفع سقف الوعي لدى الناس، ولعلّ الاستطراد هنا يسحبني إلى شاطئه لئلا تبقى الفكرة مبهمة غير واضحة فأقول: إنّ الكلمة أو الشّعر  في جوهره  لم يكن أداة تثقيف ولا مادة دراسيّة وحسب، وإنّ رسالة الشّاعر لا تنجلي فقط بمدحه فلانًا أو فلانًا أو تكريس مادته الشّعريّة لانتقاد هذا الحاكم وذاك، بل في خلقٍ ذاتي تسوده الشّاعريّة، قائم بذاته ولذاته. وصدى تدفق الشّاعر الشّعري بعفويته، مجسِّدًا بذلك خصوبة الخيال المتناثر على مساحات الرُؤى، لا هدف  للشّاعر  من وراء كتاباته  ولا علاقة له بالقضايا الإجتماعيّة والشؤون السياسيّة، سوى ترجمة ما يختلج في الاعماق من مَشاعِر ولواعِج.
      لقد سارَ من نحن بصدد الحديث عنه في ذلك المسار، بعد أن رنمَ الشّعر، دون أن انفي عنه  تكريس تجربته الشّعريّة في مرحلةٍ ما للبوح عن وطنيته ولبنانيته من قارة تقع في اخر العالم، وكأنه يوّد القول: لا لم أنسَ لبنان، لبنان في الفكر والقلب وفي الاشعار والأحلام.
    إنّ الوطنيّة عند شربل لا تقوم على تبني اعتبارات سياسيّة أو قوميّة أو انتماءات حزبيّة أو مذهبيّة، إنّما على علاقة الإنسان بارضه، حتّى وأن كان مُغتربًا أو مُغربًا عنها، فهو يؤمن أنّ من الضروري على الإنسان أن يعيشَ في وطنه أو خارجه متمسكًا بجذوره، منتميًا إلى تلك الأرض التي جُبل منها. ولعلَّ تمسكه بالجذور وبهويته اللبنانيّة يتجلى للقارئ باستخدامه مفردات عاميّة، "كالزعتر، كأس العرق، طق حنك، يا عيب الشوم"، فضلاً عن كتابة الشّعر باللهجة العاميّة (الزجل). 
   في ليلٍ أهيم وجدتُ شربل بعيني يلفه الحنين بعباءته المخمليّة مُلقيًا به إلى الأيام الخوالي، وباحاسيسٍ غريبةٍ يتصفح الأمس ويصافحه. عصيّ الدمع حين تتسكع به الذّاكرة في مجدليا وبيروت لحظة يروي أمام الاخرين ذكريات المراهقة، بيد أنّ دموعه العصيّة تفيض من مآقيه في لحظة خلوة، مع هذا أستشعر إنّ  له في القلب دمعة تأبى أن تسيل!، لأن احلامه  في الوطن كانت كسدٍ بُنيَّ على الرمل، وفي الغربة ابتدأ من جديد، صانعًا تاريخًا لنفسه ولأدبه وللجالية، وها هو اليوم عن الاضواء مبتعدًا لا يريد.
   من هذا المنطلق امضي للقول أنَّ ذلك الشَاعر المغوار تسامى على الغربة من داخلها لا من خارجها، كعظام الفارس التي اختلطت بعظام حصانه، فقد ظلَّ لبنان حاضرًا لا يغيب، منقوشًا في ذاكرته، يُعايش الهمّ اللبناني من وراء البحار، يترقب أخبار  بلاده النازفة تحت مخالب الحرب الاهليّة وصراع الاحزاب، المصلوبة على خشبة الساسة الفرقاء، لكنه لم يقف موقف المتفرج ولم يعتصم بحبل الصمت، بل امتشق قلمه، تارة يبلله بجراح المنفى، وتارة أخرى بنزيف الوطن المنحور على مذابح الأحزاب. الشاهد من الكلام: لقد نجح ساسة لبنان في طرد شربل من بلده، لكنهم فشلوا في اخراج لبنان من قلبه: فهو القائل:
بيروت يا بيروت يا مدينه
مزينه.... ومش ناقصه زينه
تنعشر سنة عم بحلمك بالليل
قولك أنا مكتوب ع جبيني
عيش عمري بالهجر والويل
اشرب دموعي وآكل سنيني
(من قصيدة قلبي وطن).
   بعد أن قذفت به أمواج الشّعر إلى شواطئ  المهجر، محاولةً أن تلفظه من مركب الحياة، نلقاه طوق النجاة للكثير من الغارقين في لجّة بحار الغربة!. وها هو اليوم لا يزال يأسر القلوب ويسبي الألباب، ويطرب الناس، يُذكي فيهم المحبة والجمال وأجمل صور الإنسان في الحياة والوطنيّة.
حين نظمت انامله أولى قصائده ونشرها في لبنان وهو  بعمر  الثالثة عشر:
زرعنا المجد
حد الارز اللبناني
صار الورد
بمرج السعد
 يغني للحب غنائي.
   لم يدر بخلد المتابعين له إنّ الغربة لم تمحُ حبّ ذلك المراهق للبنان، فها هو شّاعر الغربة الطويلة، بعد أن صافح العقد السابع من عمرٍ ارهقه الشّعر ولوعه الاغتراب، يناشد بيروت الحبيبة، قائلاً في ديوانه اوزان [7]:
بيروت يا بيروت لا تترددي
قولي أحُبّكَ كي يعانقني غدي
أمضيتُ عمري كالرياح مُشرداً
لكن وجهكِ كان دوماً مقصدي
منذ أحترفتُ النطق أنتِ قصيدتي
هيا أنشدي .... ما الشعر إن لم تنشدي؟
إنّي أحُبّكِ ... منذ أشرقَ مبسمي
كنتِ الغرام وكان حُبّكِ سيّدي.
   قد تكون الغربة اعتقلته وابعدته عن مخالب الساسة في لبنان، لكنها لم تقوَ على كسر قلمه أو طَيَّ موهبته أو تضليل إبداعه، ولم تعقه عن عيش لبنانيته في أستراليا. فالاغتراب في حياة وكتابات شربل بعيني من وجهة نظري الشخصيّة كان لها الصدى الإيجابي عليه، بل هي أمر صحي، وأمر ضار في نفس الوقت.
   صحي: لأنها فجرت طاقاته الإبداعيّة، سيّما بعد أن رفض أن يكونَ رقمًا عابرًا في معادلتها. إمتطى جواد الكلمة واستل القلم ليحارب قرفها.
   ضار: لو كان شربل بقيمته وقامته الادبيّة العالية في لبنان، لكانت شهرته أوسع ومكانته أرفع، وذلك لسرعة الإنتشار وكثرة عدد القرّاء. وهذا ما كان قد أكّده له شاعر العرب الأكبر نزار قباني- عليه رحمة الله. 
   في الغربة الحالكة رافق شربل الكثير وساعد كلّ من طرق بابه، لكنه اختار أن يكونَ وحيدًا، مُحجمًا علاقاته الإجتماعيّة، غريبًا بين الغرباء. حياته تتقلب مثل سمكة ألقوا بها خارج المياه. في مطاوي سنواتها كَم مرّة ومرّة ناءَت عليه الأيام بوزرها وجثمت على كاهله كأنّها الجبال، ولما أشتدّت الحياة أمام ناظريَّه ودبَّ الخمول في ذهنهِ والكسل في همته وغُرست خناجر الغدر في جسدهِ حتّى انتفى فيه الحماس، طلبتُ إلى الرسول بولس أن يهمس في أذنيه آيته الرائعة البلاغة التي كتبها إلى أهل روما: "أرى أنّ آلام الزمن الحاضر لا تُعادل المجدَ الذي سيتجلّى فينا (8: 18). كما أنّي تضرعت إلى يسوع الحبيب حتّى يشرق في اعماقه ما وعَدَ به تلاميذه: "ستفرح قلوبكم وما من أحد يسلبكم هذا الفرح"  (يوحنّا 16: 22). كانت حاله في مرحلةٍ ما عكس ما اراه اليوم، ولا سبيل إلى الإفصاح عنها.
   ولا أعلم لماذا تتعكر صفوتي كلّما تذكرت شربل بعيني، أللأنه يذكرني بمأساة المبدع في بلداننا الشرق أوسطيّة ومقارنته مع المبدعين في بلدان الغرب؟!. أم لأنه يوحي إليّ بقصّةِ شاعرٍ حبّرتها حروف غربته الطويلة؟، أم لأنه كسائر الأدباء، يقضّ مضجعه شعور عدم الإنتماء إلى هذا العالم؟.
   فيا أيها السادة، يا ساسة العراق ولبنان وحكّام الشرق الأوسط المنكوب بمهازلكم، والمنكود باضحوكة الربيع الدموي، لقد تغربنا طويلاً وجاء وقت الالتفاف والاهتمام بالمثقفين من الشعرّاء والعلماء والأدباء والرياضيين والفنانين... وهم أحياء، لأنهم كفاءات لا تعوض. تلك نصيحة مجانيّة من كاهنٍ عراقي مخلص مُغترب، عاصر الكثير من المبدعين في منافيهم، بعد أن لفظتهم اوطانهم، يعرف جيدًا محنة الغربة، ويدرك حجم التهميش، وقدر المعاناة، وسيطرة المحسوبيات، وغياب الانصاف، وفقر الاهتمام بالمبدع  سواءً في الوطن أو المهجر.
   فيا ليتكم تتعظون وتميلون انظاركم إلى بلدان الغرب، لتشاهدوا كيف يُعامل  المُبدع الغربي وهو  حي، وكيف يُخلَّد عقب انتقاله إلى دار البقاء، فسرعان ما  تقوم حكومته وبلده يتحويل منزله من دار إلى مزار!، لأن البلدان الغربيّة تفقه كيف تُقيّم مُبدعيها وهم على قيد الحياة، وتدرك  كيف تُخلّد رموزها في كافة المجالات. فأين أنتم من كلّ هذا؟.
   لقد أظهرت الغربة جليًا أنّ إبن مجدليا ينتمي إلى ذلك النمط  العصامي من البشر، له طموح يعانق السماء، يبحث عن الجديد والتجديد دومًا، يقبل التحدي ويحفر في الصخر إذا اضطرته الأمور.
   وعلى مدار سنوات تواجدي في سيدني اكتشفت أنَّ شربل له مريدوه من  اللبنانيين والعراقيين والعرب والأستراليين وهم كُثُر والحمد لله ومن جميع المستويات الثقافيّة والاجتماعيّة. يشعر الجميع بتفرده الأدبي والأخلاقي وعمق كتاباته الخلاّقة.
   ولأنّ العدل والتقييم ليسا من خصائص بلداننا الأصليّة ولا من مظاهر الوجود فيها. ولأننا وللأسف الشديد نتباكى على العقول المهاجرة والمواهب الضائعة بعد فوات الآوان، بُتنا لا ندرك قيمة ما اهملناه إلّا عندما نكتوي بنيران الخسارة والفقدان، أقول هذا وعيني موجهة صوب شربل، حيث لم ينل إلى الآن كلّ ما يستحق من بلده - لبنان، لكنني أظن وليس كلّ الظن إثم أنّ غربته أهلته للمضيء قدمًا برحلةٍ أدبيّة ثريّة وفريدة يصعب تكرارها، ففي يومٍ ما سيقال ويكتب في سجلات لبنان: إنّ شاعرًا لبنانيًا يدعى شربل بعيني عاش في بلاد الاقيانوس. وصدقوني أنّ أسمه ومنجزه  لن يمران مرور الكرام، كما حصل مع جبران.
   إنّني سعيت من الكتابة عن الشّاعر العربي المهجري شربل بعيني ومن استعراض عينات من شّعره، إلى أن ألفت الأنظار إلى شّاعرٍ رسم بالكلمة خارطة لبنان على وسادة المنفى. والإشارة إلى نوعيةٍ من اللبنانيين، يمثلون خير تمثيل وطنهم الأم في تكوينه الثقافي وتنوعه الحضاري وتعدده الديني وتاريخه العريق في المهجر الأسترالي، ولا عجب فغابات الارز وسهول مجدلّيا يقذفان بين حين وآخر ابداعات فريدة وشخصيّات متميزة.
   ونحن ملّة الأدباء في المهجر الأسترالي من لبنان والعراق وسورية ومصر وفلسطين.. سعداء وفخورين بمعاصرتنا شاعرًا لبنانيًا بقيمة شربل بعيني.
فألف شكر للمهجر الأسترالي لأنه جمعنا به.
      تبقى في الختام نقطة لا أتحرج أن اثيرها: إنَّ بلدًا كلبنان ينتمي إليه  أمثال الشّاعر الكبير شربل بعيني وغيره من الشخصيات الأدبيّة المرموقة، يجب أن يكونَ فخورًا متميزًا مرفوع الرأس لا ينكّس هامته أبدًا!.
   وأزيد: إذا كان لا يجوز وضع النور تحت المكيال، فإنّه لا يجوز أن لا يلتفت لبنان إلى شربل وغيره من شّعراء المهجر، لأنه خرجَ من رحم تلك الأرض المباركة، شعره معمد بحبِّ لبنان، وقلمه مفعم بلهبات مجدليا، يشتعل ليضيء عتمات الدروب في الوطن والمهجر. ولأن لبنان بلدٌ معروف بأصالته وتاريخه وحضارته، لبنان الفضائل والقيم والمثل العليا والتعايش المشترك، لبنان الارز والفنّ والجمال والأدباء، فيا ليته لا ينسى المبدعين والمحبين من ابنائه المغتربين.
    ولا غرو إنْ عممت حدسًا مفاده:
   كما أقترن أسم لبنان بفيروز وصباح وماجدة الرومي ووديع الصافي والرحباني وجبران ونُعيمة وسعيد عقل، سيأتي يوم ويقترن لبنان باسم شاعر لبناني مغترب  يدعى شربل بعيني، عزف ببراءة الطفل وجمال الزهرة ورقة النسيم على قيثارة الغربة الحان الأرز اللبنانيّة، مُرتلاً في صومعة الشّعر مزامير قصائده الأبديّة.
   ويقيني أنّ عصافير الحُبّ الارجوانيّة ستشدو في الدّروب بين سيدني ومجدليا قصص ومضامين أشّعاره للإنسانيّة، مستعيرة فيه قول عمرو بن أبي ربيعة "وهل يخفى القمر"، لأنه  تلك العلامة المضيئة في تاريخ أدبنا المهجري في أستراليا.  وإنّ غدًا لناظره قريب.
   أمد الله في عمره وعمرنا حتّى نعوض في صحبته ما ضاع منّا في بغداد وفي سنوات الغربة في الخارج وراء خدمة العباد على مذبح الكنيسة وهيكل الكلمة. متمنيًا له مواصلة العطاء وديمومة الإبداع.
ـــــــ
[1] لا أعلم لماذا يحلو لقلمي نعت الأستاذ شربل بهذا اللقب؟!.
[2] لا أخفي على القارئ بأنني لا أستسيغ كثيرًا شعر شربل الزجلي، ليس لأنني أفضّل الفصحى على العاميّة، بقدر ما يطربني شعره في الفصحى، إذ فيها تتجلى شاعريته وبراعته اللغوية بوضوح تام، فاللغة الفصحى لها نكهة خاصّة، تخاطب القارئ أو المستمع بشكلٍ صريح، تلامس وجدانه، وتصور حياته، وتعزف على أحاسيسه بنحوٍ دقيق.
[3] القيت هذه القصيدة تكريما لروح الشاعر العراقي عبد الوهاب البيّاتي في أمسية رابطة البيّاتي الثانية بتاريخ 22/9/2015، ثمَّ نشرها الشاعر في ديوانه "أوزان" 2016. ويتاخمني يقين لا يقبل الشك أنّ شاعرنا وجدَ في معاناة صديقه البيّاتي صورة طبق الأصل من معاناته.
[4] في الطائرة التي أقلتَهُ من بيروت إلى سيدني، قال له أحد الركاب:"يا بختك، سوف تجلس في البيت والحكومة الأستراليّة تتولّى شَأنَ معيشتك". ومنذ تلك اللحظة قطع شربل العهد على نفسه ألا يتقاضى راتبًا من الحكومة، سوى في حالة المرض أو التقاعد. وهكذا كانت الحال لما بلغ سنّ الـ 65.
[5] شربل بعيني: عندما يموت الشعراء، سيدني 2010، ص 16.
[6] كتبَ الراحل بطرس عنداري في صحيفة النهار، العدد 592، 26 ايار 1988 ما يدعم رأينا هذا:" يبقى أن نعود إلى الجد، ونقدّر تضحيات شربل الأدبية والمادية، واهتمامه بدفع الأدب إلى الامام، حتى ولو كان ذلك على حسابه الخاص".
[7] صدرَ هذا الديوان مطلع عام 2016 في سيدني، والاقتباسات هنا مقتطفة من الصفحات 6-8.

**
http://charbelbainrassamalkalimat.blogspot.com.au/2016/02/blog-post_92.html