ـ6ـ
منذ نعومة اظافره وعنفوان مراهقته راحت عصافير الشّعر تنقر على زجاج شبّابيكه، لتهمس في أذنه:
ـ غرّد يا شربل فمساحة الحرية بِلا حدود.
بيد أنه أكتشف من دون سابق انذار أنّ الحدود قائمة، وأنّ المشتغلين في حقل الأدب أنهكتهم الحدود، فقد قطعوا اصابعهم وقالوا لهم أكتبوا كما تشاؤون. وشربل عاشق الحرية في بلدٍ لا حرية فيه، الشمس غاربة في نهاره والقمر متوارٍ في لياليه.
وكلّنا يعلم ما عاناه شربل، ومع ذلك أصبح منارةً سمقت في دنيا الأدب الأغترابي، لم يتوقف ليرد على عواء الذئاب الجائعة التي ارادت ايقاف مسيرته في مجال نهضة الأغتراب الأدبيّة، بل استمر كالانهار التي لا تلتفت للوراء، واعد لهم موائد عامرة وغنية من ثمار الكلمة.
سؤالٌ تطرحه الالسن كما تطرح الأرض الاتربة في الرياح: لماذا لم يتوقف شربل ويتراجع منسحبًا، رغم الطرق الوعرة ومخاطر الرحلة؟.
فأجيب: كثيرون يراوغون فيصلون إلى أهدافهم بطرق ملتوية كثيرة، وحدها البراءة تقول ما تعنيه، وتعني ما تُريد، وتريد ما تريد. لهذا ظلّ شربل "يتمخطر" في فضاءات الصمود، لأنه خبّاز الكلمة الحُرّة، عجن الحرف وخبز الكلمة وقدمهما خبزًا تأكله الناس على طبق الحرية، إيمانًا منه أنه لا بُدّ من يومٍ سيستنشق فيه إنسام القمم العالية. وعميدنا خلال رحلة أدبيّة قوامها نصف قرن أراد أن يبث لنا قناعة صريحة واضحة لا لُبس فيها: الحرية لا تُمنج بل تُخلق ونحن من نساهم في خلقها أو توسيعها، لأنها قرارٌ نتخذه بأن نكون أحرارًا وأن نحرر الغير، وهذا القرار يتشكل في النهاية من مساحات فرديّة، تشكل كلّ مساحة منها فُسحة تنويريّة للفرد لأن يمارس فاعليته وليعبر عن تمايزه وفرادته، وهذا ما صنعه صاحبنا. فهو مدمن على الشّعر، لم ولن تقوى جميع المصحات العالمية من علاجه، وكأنه يقول للشّعر: أنتَ موطني الذي هجرت كلّ العالم لأسكنه.
إنّ المتأمّل في أدب شربل بعيني يلحظ إنه بدا كشاعرٍ بكتاباتٍ فرديّة، لكن مع الزمن أدرك أنّه كلٌّ للكل بفضل الشّعر، لهذا فتحه الشّعر على الجميع، فلم يقتصر شّعره على لبنان، بل تغنى بالكثير من العواصم العربية، تقبع في طليعتهم بيروت وبغداد، وتصدى لموضوعات، كأمراض الجالية، الثرثرة في الندوات الأدبيّة، مظلومية المرأة الشرقيّة، المصلوبين على جلجلة الحياة، محنة الفكر الشرقي، الخيانة، العائلة، الحبّ، والأنكى من ذلك تجد ظاهرة إنسانيّة عالية في كتاباته تتمثل بوقوفه دائمًا إلى جانب الذين لا يجارون الموضة ولا يسيرون في ركابها العالية.
عاش شربل في حياته دوريْ الضحية والجلاد، فهو ضحية الساسة في بلده الأم وضحية منافسيه، وضحية طيبته، وضحية الشهرة، غير أنه ظلَّ ملتزماً برسالته لا يحيد عنها، لم تمنعه قلاع ولا سواتر ولم تصده موانع ولم تردعه روادع أو مخاوف، ولم تتراجع عزيمته أو يفرط في قضيته.
لكنه جلاد!. ستقولون كيف؟. فأجيبكم: في كلّ مجتمع ضحايا، وكلّ مجتمع له معذبوه، جلد شربل بكلمته ممارسات خاطئة بحق الإنسان، سواء صدرت من المجتمع أو الحكومات، أو كلّ من تسول له نفسه العبث في قيمة الآخرين.
سعى خبّاز الكلمة إلى رفع منسوب المحبة والمصالحة بين الأطراف المتقاطعة ثقافيًا وبالتالي خدمة الوحدة اللبنانية وتعميق جذور التآخي بين أبناء وطنه في مهجره. وهنا لستُ بحاجةٍ إلى مثالٍ لأنني أسوق للقارئ حقائقَ لا تحتاج إلى شرحٍ أو إيضاح.
وإذا كان شربل صوت الجالية نرى أن ربيعه يمتد ليكون مرآتها، فقد اتخذ قرارًا ليؤرخ الحياة الأدبيّة في أستراليا عَبرَ بوابة الغربة، فلا تفوته شاردة أو واردة إلا ونشرها، ينشر نشاطات الجميع، حتّى لو لم يكن حاضرًا أو مدعوًا في تلك النشاطات، فاستحق أن يكون صوتًا نافذًا في أدب المنفى الأوزي أو حارسًا لذاكرة الأدب الأغترابي إن صح القول، بيد أنّ الأمر لم يشغله عن "أسطرة أدبه"، أي جعله أسطورة، ذات القيمة الإبداعيّة، وتوثيق كلّ ما كتب وقيل عنه.
يسيل لعابي إزاء أيّ عملٍ فيه إبداع، لكن دموعي تسيل في الخفاء ويتفطر قلبي حينما أعرف شيئًا عن حياة المبدع وما تكبده من سهر وتفكير لكي ينتج لنا منجزه الإبداعي الذي أمتعني واستمتع به الكثيرون. ولكن، أتعلمون أنّ المبدع لم يستمتع غالبًا بحياته ولا بأوقاته. وصدقوني وحده المبدع غريب عن هذا العالم، لأنه يشعر بعدم الإنتماء له، فمن يعرف ويدرك أكثر تلقاه يحزن ويعاني أكثر، فللمعرفة والوعي ضريبتهما. هذا هو حال المبدعين والمفكرين والأدباء والشّعراء والمصلحين الخلاّقين الذين اضفوا شيئًا مميزًا على الوجود وبصموا بصمتهم في جبين الحياة وصنعوا التاريخ. وشربل دون أيّة مغالاة واحدٌ من هؤلاءِ، بعد أن أشعل شمعة حياته من طرفيها وأكتوى بنار الإبداع والعطاء، فاحترقت حياته بالمعاناة والإحساس بعدم الرضا عمّا ينتج، والترقب المستمر والتفكير المتواصل.
ختامًا:
ما أجمل أن يكون للإنسان قضيةَ حياة يحيا في سبيلها، لا يساوم أو يجامل على حسابها، قضية يصوغ منها قصّة حياته في رحلة الوجود الأرضي القصيرة.
لهذا أؤمن بشيء: إنّ قيمة المرء تكمن في أمورٍ عدة، أهمها: أن يكون ذا قضية ومبدأ ورسالة، ومتى كان فيه كلّ هذا سيغدو مُميزًا ومتميزًا، وبقدر ما يكون المرء صادقًا وأمينًا في عيش رسالته وقضيته بقدر ذلك سيحقق مشروعه ويحقق ذاته ويطبع أثره في النفوس وينقش أسمه في لوح الخلود: وما الخلود، سِوى إنّكَ تعيش في الوجودِ وتمرُّ في حياةِ الآخرين في زمانِ ومكانِ وواقعِ حياة، فتترك أثرًا فعّالاً وإيجابيًا، وبقدر ما يكون حجمُ وعمقُ وكثافةُ أثركِ الايجابي، بقدَرِ ذلك سيكون حجمُ خلودِكَ، أثرًا يجعلك حيًا فيه. وبذلك ستكون قد بلغتَ أوجَ عظمةِ حياةٍ مُتساميةٍ تجعلكَ في خلودٍ أبدي[1].
وشربل كانت ولم تزل قضيته الشّعر والأدب، لم يتخلَ عنها، بل حققها بنجاحٍ يشهد له الجميع. فالحياة في مفهومه رسالة تتضمن مرحلةُ إبداعٍ، خدمةٍ، وجودٍ فعّال، عسى ألّا نجعلَها مرحلةً عابِرة، بل كشفاً واكتشافاً وتعمّقاً وهدفاً وقيمةٌ كبرى، تكون بدايةَ خلودٍ أبدي، كُلّنا مدعوون لها.
عزيزي القارئ، ربّما سيقول لك الكثيرون، ويحاولون غسل دماغك، بإنّك ستدفع ثمنًا باهظًا، وستجعل من حياتك صراعًا مستمرًا، بل سيحثونك على التمتع بالحياة، مطبقين عليك المثل العراقي المعروف: "ألبس الكبع وألحق الربع".
فأجيب:
من الصعب جدًا، بل متعبة حياة على هذه الشاكلة، ومغامرة شاقة لمن يريد السباحة عكس التيار لئلا يكون رقمًا عابرًا في معادلة الوجود، ومرهقة هي الأيام لمن يبغي الإصلاح والتنوير. والأصعب لمن يعرض ذاته لرياح شديدة تهب عليه من كلّ الجهات لتصده وتوقف فيه مسيرة الكلمة ومبادئ الحبّ ورسالة التنوير ونحر كلمته الوضاءة في زمن الحرية. وما الكلمة سوى الإنسان بعينه وانعكاس له، بل هي صدى أعماق، يقولها لذاته وللآخرين، مُجسّدًا في كلمته المنطوقة والمكتوبة حبًّا وإيمانًا وقناعة ووضوحًا وخدمة وخلودًا، يقولها أو يكتبها سعيًا وراء هدف نبيل، سيّما إذا كان الإنسان، المُجتمع، الوطن، الثقافة، لأن الصمت شنق للذات ونحر للآخر.
إنسان على هذه الشاكلة حتمًا سيكون طعامًا للكثيرين، ولكن طوبى بل هنيئًا لمن يطعم الجياع. وشربل اطعم الكثيرين من موائد أدبه، فألف شكر لك يا خبّاز الكلمة في فرن الأدب الأغترابي.
وليس أجمل من أن أنهي كتابي هذا بمقطفات من مقالات كثيرة كتبتها، كان اسم شربل بعيني يمر فيها كنور الشمس من نافذة منزلي البغدادي، لتدركوا مدى إعجابي برسّام الكلمات صديقاً وأديباً.
وإليكم ما حصدت من أرشيفي:
فؤاد نعمان الخوري.. أنتَ في أَفئِدَتنا قصِيدَة
كان قد حدثني عنه الأستاذ شربل بعيني وعن براعته الشعريّة ومكارم اخلاقه، حتّى التقينا في مناسبةٍ سقطت من تضاعيف الذّاكرة، ثمَّ توالت اللقاءات والاماسي والمحادثات الهاتفيّة، كان اخرها في أمسية الشاعر الراحل رامز عبيد؛ حيث تَلألأ نجمه، وسطعت شمسه، ثمَّ جوبهت قصيدته العامية بالتصفيق الحار، حتّى أنّني هتفتُ له مع بعض الحضور:" الله يا كبير".
في تلك اللقاءات وجدتُ صاحبًا لا يحتكر الحقيقة والصواب، لا يقلل من شأن أحد، لا يتحلى بشخصيّةٍ طاوسيّة، ولا يتكلم عن نفسه أو عن موهبته الراقيّة، لانه الرقي بعينه. ليست له ذات متورمة متضخمة لا ترى سواها، بل على العكس، فهو يحاكم نفسه في محكمة الضمير. يتحاور مع الاخرين بصوتٍ مُنخفضٍ وبلغة تواضع الكبار. والحال أنّ الاستاذ شربل بعيني كان كالعادة صادقًا في تقييمه.
**
أنطوان القزي الأرز الشامخ
ذات يوم كان الأستاذ شربل بعيني مُنهمكًا بتنقيح كتابي "المبدعون غرباء عن هذا العالم"، فطلبت منه طامعًا بسخائه أنْ يتفضّل عليَّ وينقح كتابي الاخر، لكنه أعتذر بلطفٍ وشفافيةٍ لضعف بصره وعدم قدرته على القراءة الطويلة، وأسدى لي النصيحة بالإتصال بالأستاذ أنطوان قزي رئيس تحرير صحيفة التلغراف الأستراليّة، لأنه أديب قدير ولغوي ضليع. وقد اخذت بتلك النصيحة واتصلت به وعرّفته بنفسي وعرضت الأمر عليه، فأبدى الرّجل موافقته وتحمسه. ولكن يا فرحة ما تمت!، فالمدة الزمنية التي حددتها لمراجعة الكتاب لم تسعف أبا ناجي يومها.
مضت الشهور، وإذ بصديقنا الأستاذ موفق ساوا رئيس تحرير صحيفة العراقيّة الأستراليّة يبادرني بفكرة زيارة الأستاذ قزي في مقرّ صحيفة التلغراف لغرض منحه دعوة التكريم في مهرجانٍ رعته مؤسّسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون، كنتُ أنا والقزي من ضمن المُكرمين.
استقبلنا السيّد أنطوني والحق يقال بحفاوةٍ بالغةٍ وترحابٍ كبير، وقد التقط لي يومها بعض الصور الشخصيّة في مكتبه، ومن ثمَّ نَشَرَها في صحيفته المذكورة، مرفقة بغلاف كتاب "المبدعون غرباء..."، فكنتُ له ولكرمه شاكرًا.
مع الأيام ربطتني به صلة إنسانيّة طيبة، وجمعتني وإياه صداقة أدبيّة على مرّ السنوات الماضية، وايقنت فيما بعد، يوم اشرف على التنقيح اللغوي لكتابيّ (أفكار وتأمّلات من تُراب) و(أحاديث قلمٍ في مرايا الذات والمجتمع) أنّه انسان مجتهد، المّ باطراف اللغة العربية وبرع فيها بجدارة، وأدركت أنَّ الاستاذ شربل بعيني وجهني كالعادة نحو الشخص المناسب والمُنقح الأمين.
**
أنطوني ولسن كبير من كبار أرض الكنانة
تلوح في ذّاكرتي نبُل مواقفه التي لا أنساها، فيوم أقيم حفلٌ كبيرٌ لتكريم ذلك الشيخ الجليل بتاريخ 29/1/2012 بمناسبة اطلاق كتابيه: "الحُبّ هو الدواء" و"ذكريات العمر اللي فات"، شرفني الرّجل لكي أكونَ مُتحدثًا فيه وسط حشدٍ رفيع من المثقفين والأدباء المصريين والعرب، فوجدتها مناسبة مؤاتية لكي أتحدث عن دوره البارز في الثقافة المصرية والمشهد الصحافي العربي في سيدني بدقائق معدودة لاقت استحسان الحضور، واذكر يومها كيف نهض العملاق الكبير بطرس عنداري رحمه الله من مقعده؛ حيث كان يُجالسني رفقة الدكتور موفق ساوا والأستاذ شربل بعيني وشقيقه جوزيف، ليهنئني على كلمتي وسلاسة المفردات وسلامة اللغة، فشكرته، وابلغته بأنّ الفضل يعود إلى أستاذي الجليل شربل بعيني الذي يُصحح اخطائي اللغوية. ولعلّي لا أكون واهمًا إنْ قلت: يُخالجني شعور بأنّ ذلك التشريف الذي مَنّ به عليّ الأستاذ أنطوني جاء بالتشاور مع صديق غربته شربل بعيني.
نَشَرَ "العم ولسن" أوّل مؤلفاته عام 1993، بتشجيع من والدة صديق غربته الطويلة الشاعر شربل بعيني؛ فتلك المرأة التي توفاها الله برائحة القداسة على ما يبدو لم يكن لها اليد الطولى في نجاحات ولدها التي تصلي له من السماء وحسب، بل كان لأبن ولسن من فضائلها نصيب، إذ أصرت يومذاك وألحت عليه وشجعته على النشر، ونزولاً لطلبها انجز العم ولسن مع مرور الشهور "ميثاق الشيطان"، وهو كتاب قصصي، صدر عن دار عصام حدّاد في بيروت، الذي يعتبر أوّل كتاب قصصي يصدر لمصري خارج مصر. الكتاب في الأصل نص مسرحي كُتب في القاهرة في زمن تزامن مع اصدار الرئيس الأسبق لمصر السيّد جمال عبد الناصر ميثاق الجمهورية.
وأحفظ له جميلاً اخر لن انساه أبدًا يوم سطر تعليقًا حول مقابلتي في تلفزيون الغربة الاسترالي؛ فكتب في 2 ابريل 2012:
"أبونا الأديب يوسف جزراوي السامي الإحترام .. تحية ومحبة المسيح لكم. كم سعدت بهذا اللقاء الروحي، الأدبي، والإنساني .
أبونا يوسف إنه لشرف عظيم لأبناء الجاليات العربية عامة والعراقية خاصة بوجودكم معنا في أستراليا .الرب يبارك أعمالكم. والكلمة هو الباقي (والكلمة صار جسدا وحل بيننا). ونحن من يؤمن بخلود الكلمة في كتاب نتركه لمن يأتي بعدنا وليكون الكتاب كاتم سر تاريخ أحداث وأفكار الحقبة التي عاشها وتعايشها صاحب الكتاب ومؤلفه وكاتبه. يقولون لقد طغى الإنترنت على قراءة الكتب.. وأقول لا ما زال الكاتب والكتاب وسيظلان إلى الأبد الشعاع الذي ينير البشرية ويأخذها إلى الإرتقاء والتقدم . وما نقرأه على الإنترنت ما هو إلا نتاج كاتب ووضع في كتاب عيبه الوحيد أنه غير متكامل للكاتب الواحد. لكنه "الإنترنت" حافظ لما نكتب وينشر على صفحاته ويمكن للكاتب أن يعود إليه لجمع ما سبق ونشره ويصدر به كتابا . أبونا يوسف جزراوي شكرا لكم على إصداركم الجديد ونحن في إنتظار توقيعه .شربل بعيني شكرا لكم على هذا اللقاء الأدبي المميز".
**
سركيس كرم الذي ايقظته الغربةعلى اوجاع لبنان
أخيرًا.... أتعلم يا سركيس أنّني أقرأ للكثيرين من اللبنانيين في المهجر الأسترالي بدءًا من كبيرهم شربل بعيني وصولاً إلى إبن زغرتا البار سركيس كرم.
تحية إليك وإلى كلّ الشرفاء في لبنان والعراق وأستراليا، تلك البلدان المعطاءة. فأنتَ الكاتب الإنسان، الذي له في قلبي منزلة كبيرة.
**
مارسيل منصور بين التغيير والتحرر
زينت لوحاتها ورسوماتها أغلفة العديد من الكتب منها للأديب المصري أنطوني ولسن، الصحافيّ والكاتب الفلسطيني هاني الترك، الأديب اللبناني شربل بعيني، وكاتب هذه السطور وغيرهم.
**
كلمة ألقيت في تكريم الشاعر مروان كسّاب بمناسبة توقيع ديوانه "دموع الخريف" 2015
"مُنذُ أسرجَ الليلُ نجومهُ، ايقظتهُ الغربةُ على اوجاعِ لبنان.
في دموعِ الخريف، مأساةُ وطنٍ في قلبِ إنسان، رسمَها قلمُ قاضٍ كالفنان.
جعلَ للربيعِ ابتسامةً، بانيًا للخوف مذوذًا، مُشيدًا للكلمةِ الحرة الجميلةِ قلاعًا.
لأجلِ صباحاتٍ مُشرقة. علّق الحبرُ أقلامهُ في سَقفِ الليل، فكانت ومضاتُ قلمهِ قناديلَ، تنثرُ اضواءَ النجومْ، في ليلٍ دامس.
إمتطى جوادَ الشعرِ، واستلَ سيفَ القانونِ، تاركًا ابجديته تبوحُ بدموعِ شاعرٍ، غدا صوتًا صارخًا في بريةِ الشعر ِالمهجري.
من سيدني إلى لبنان، انسابت دموعُ شاعرٍ كسّاب. وهأنذا ورابطةُ البيّاتي للشعرِ والثقافةِ والأدبِ، أتيناكَ من أرضِ العراق، من حضرةِ أبي نؤاس والسياب والمتنبي والبياتي، نكففُ الدموع، ونُكرمُ شاعرًا من حضارةِ لبنان، من طينةِ نُعيمة والخوري والقزي والبعيني (2) وجبران.
أتيتُكَ اليومَ يا كسّاب كنهرٍ مُنسّاب. حتّى نلتقي لأشبك يدي في يديكَ، لا هنا بل في بغداد الشعرِ والصورِ والمعلقات، وأُزين صدركَ ثانيةً بقلادةِ إبداعٍ على ضفافِ فُراتْ الحضارات. ألف مبروك التكريم".
**
الدكتور موفق ساوا تسكنه فضاءات المسرح
ولقد توطدت علاقتي به بشكلٍ كبير إلى حدٍ كنا نلتقي كلّ اسبوع تقريبًا أثناء التحضيرات الأوّليّة لمهرجان العراقيّة ومعنا مجموعة من الأصدقاء، اذكر منهم الأديب شربل بعيني، الكابتن سعدي توما، الاستاذة هيفاء متي والشاعر احمد الياسري.
**
العملاق يحيى السماوي كالحجر الذي رفضه البناؤون وصار رأسًا للزاوية
وعندما منحته رابطة البيّاتي جائزة القصيدة العموديّة مناصفة مع الشاعر شربل بعيني لعام 2015 في مهرجانها الثاني، طلب البعيني من نائب قنصل جمهورية مصر السابق أن يستلمها السماوي عوضاً عنه، قائلاً: "لا أستحقها بوجود السماوي". فما كان من شاعرنا يحيى السماوي إلّا أن طبع قبّلة على جبينه، فنال شربل بذلك جائزتين في وقتٍ واحد: جائزة البيّاتي وقبلة السماوي.
**
من مقال عن الفنان حيدر عباس العبادي
ذات صباح وبينما أنا جالس اتناول قهوتي ومندمج بمراجعة مخطوطة كتابي "ملحمة كلكامش ط1" رنّ هاتفي الشخصي - الموبايل - وكان المتحدث هو الرسّام المعروف حيدر العبادي، مستفسرًا عن مضمون اللوحة التي كنتُ قد كلفته برسمها منذ زمن لتزين غلاف الكتاب المذكور. حينها حبست الالم في صدري، ومضيت للقول بنبرة الخجل: انني اود لوحة لكتابي "أفكار وتأمّلات من تُراب" وليس للذي ذكرته، لأن الرسام العراقي المتألق د. وسام مرقس انجز لي العمل. ويجب أن أعترف هنا بإنَّ الرجلَ كان مرنًا متفهمًا ومهنئًا، وابدى استعدادًا وتحمسًا، فجرى الاتفاق على لقاءٍ قريب تتم خلاله تلاقي الرؤى حول مضمون الكتاب ورموز الغلاف التعبيرية.
وفي مطلع شتاء عام 2012 تلقيتُ دعوة من قنصل لبنان السابق السيّد ماهر الخير لحضور امسيته الشعرية التي اقامها في "الاوبرا هاوس" بسيدني، فذهبت صحبة عميد الادباء المهجريين الأستاذ شربل بعيني، وهنالك رأيت الاستاذ حيدر الذي كان له معرض فني واسهام ملحوظ بتصميم ديكورات العرض المسرحي الذي رافق الأمسية الشعرية. تطلعت إليه ونظرت إلى جبينه فوجدت تاريخ العراق، امعنت النظر بوجهه ذي البشرة السمراء، فتذكرت بلدي. حدقت النظر في عينيه السوداوين وعرفت تلك الأوقات القاتمة التي قضاها في بلده. تفرست به مُجددًا، وإذا بمتاعب رّجلٍ أنفق شبابه للفن ترتسم على محياه، كأنك تقرأ فيه تفاصيل اليمة وهمومًا دفينة. رّجل يبحث عن تفاصيل فنية تخرجه من قعر تلك الأيام المظلمة التي يصعب على الذاكرة نسيانها!
**
مقتطفات من مقال: بين لعنة الله علينا وعنترة وسياسة البسطال
نحتاج الى جهد جهيد، لتحطيم هذه السياسات التي نشأنا عليها عقوداً من الزمن واصبحت بمثابة قناعة خاطئة مُتجسدة في سلوك يُعقد حياة الإنسان العربي ويملأه بالعقد والمخاوف....
قال الشاعر السوري العربي الأكبر نزار قباني:
"الشعب مثل الطفل الصغير يرضى بقطعة حلوى"، ونشر الحقائق في قصيدته (عنترة) وحذا حذوه الشاعر اللبناني العربي الكبير شربل بعيني في رائعته: قصيدة (لعنة الله علينا).
نعم نحن كشعوب قبلنا بسياسة الصمت امام عنترة بلدنا وسياسة (البوت – البسطال العسكري)، وكان الكثيرون منا يهتفون امام (عنترة) القائد المفدى (يعيش.. يعيش) وفي اعماقهم يهمسون (لعنة الله عليه)! وبسبب سياسة معظم حكامنا العرب (سياسة فرق تسد... ناهيك عن سياسة التمييز الطائفي والعشائري...) بتنا في وضع لا يتقبل الآخر بسهولة، فصار لدينا مخاوف من الإنفتاح على الآخرين خوفًا من وشايتهم علينا، فاغتيلت فينا قناعة النطق بكلمة حق.
2013
**
اهداء كتاب نخيلٌ في بستان الذّاكرة... الصادر عن دار سطور- العراق- بغداد/ شارع المتنبي 2016.
- إلى المدفعيّة الثقافيّة الثقيلة وترسانة الإنسانيّة الأدبيّة، ابائي الروحيين وقرّة عيني:
ـ البحّاثة د. بطرس حدّاد الذي رحل عن عالمنا دون استئذان؛ بموته غارت الينابيع في الأرض ويبست عروقها. لقد أشعل الموت عود ثقاب في قلبي الذي يتلظى بنيران رحيله. لينفعنا الله بصلاته من علياء سمائه. آمين.
ـ الشاعر الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا وصدقًا وتعليمًا وتواضعًا وبراءةً، وهل هُناك من ضحكة محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني. إنّه قلم المطافئ ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة. أطال الله بعمره. آمين.
ـ العملاق المتواضع الشاعر يحيى السماوي، الذي لم ولن يتعملق على حساب الآخرين، مُتقنًا لغة المحبة الكونيّة، عارفًا فنّ مواصلة الموَدّة والتمسك بحبال الوفاء وأخلاقيات الإنسانيّة. لا يعرف التزمت ولا يقبل التعصب ولا يميل إلى التشدد، بل هو صورةٌ مشرقة لسماحة العراق وطيبة العراقيين وتنوعهم الحضاري.
بمولده انبلج على الأدب العربي فجرٌ جديد. قلمُه سيال كحقل من القمح تحت المطر، لسانُه يَقطر عسلاً من بليغ الكلام، أما هو، علم خفاق فوق الساريات.
رعاه الله بصحةٍ لا تبلى. آمين.
لقد وجدتُ في شخصيّة هؤلاء الفرسان الثلاثة (فرسان الكلمة) مزايا مُقاربة لشخصيّة والدي المثقف المرحوم نبيل جزراوي، فبعد رحيله المفاجئ إلى الأخدار السماويّة عوضني الله بحدّاد والبعيني والسماوي.
الأب حدّاد كان يشرق أبوته من تاج الشرق بغداد، أمّا في أستراليا من وراء البحار النائية: شربل يشمِّس من سيدني، ويحيى يغمرني باشعة الرافدين من اديلايد، وأنا تحت شوامس محبتهم أسير بعكازة الصداقة، فوجودهم لم يشعرني أني فقدت أبي.
وعدًا وعهدًا كلّ ما حييت ألا أنفض يدي من صداقتنا النبيلة ولن أتنازل عن تلك الأبوة الروحيّة، مواظبا في مدارس تعليميّة وأدبيّة، اساتذتها قمم في الإنسانيّة.
**
تعليق على مقال: الثرثرة في ندواتنا الأدبية
أستاذنا الكبير شربل بعيني
مقالٌ جميلٌ ونبيلٌ، دائمًا يسيل لعابي وأنا أطالع كتاباتك المرموقة، ولكن في هذا المقال اللامع الرائع أختصرت عليّ عناء كتابة مقال بهذا الصدد.
مقالك أشبه بمنارة تكتسح ظلام الثرثارين؛ فالثرثرة أصبحت وللأسف آفة تفتك بندواتنا الأدبية، فالبعض حين يعتلون ناصية المنبر يتوقون إلى إصغاء الآخرين لكلماتهم، بينما هم يعيثون الضوضاء ويطلقون إبتسامة السخرية والإنتقاص حين يعتلي غيرهم المنصة.
دمت جرس انذار وصوت حق وحقيقة، وقلم توعية يرفع سقف الوعي في أدبنا المهجري.
تقبل شكري ومحبتي وسؤالي الدعاء.
**
[1] أنظر كتاب الأب يوسف جزراوي: ملحمة كلكامش، ط2، ص 120، بغداد 2015.
[2]ـ شربل بعيني
**
ـ غرّد يا شربل فمساحة الحرية بِلا حدود.
بيد أنه أكتشف من دون سابق انذار أنّ الحدود قائمة، وأنّ المشتغلين في حقل الأدب أنهكتهم الحدود، فقد قطعوا اصابعهم وقالوا لهم أكتبوا كما تشاؤون. وشربل عاشق الحرية في بلدٍ لا حرية فيه، الشمس غاربة في نهاره والقمر متوارٍ في لياليه.
وكلّنا يعلم ما عاناه شربل، ومع ذلك أصبح منارةً سمقت في دنيا الأدب الأغترابي، لم يتوقف ليرد على عواء الذئاب الجائعة التي ارادت ايقاف مسيرته في مجال نهضة الأغتراب الأدبيّة، بل استمر كالانهار التي لا تلتفت للوراء، واعد لهم موائد عامرة وغنية من ثمار الكلمة.
سؤالٌ تطرحه الالسن كما تطرح الأرض الاتربة في الرياح: لماذا لم يتوقف شربل ويتراجع منسحبًا، رغم الطرق الوعرة ومخاطر الرحلة؟.
فأجيب: كثيرون يراوغون فيصلون إلى أهدافهم بطرق ملتوية كثيرة، وحدها البراءة تقول ما تعنيه، وتعني ما تُريد، وتريد ما تريد. لهذا ظلّ شربل "يتمخطر" في فضاءات الصمود، لأنه خبّاز الكلمة الحُرّة، عجن الحرف وخبز الكلمة وقدمهما خبزًا تأكله الناس على طبق الحرية، إيمانًا منه أنه لا بُدّ من يومٍ سيستنشق فيه إنسام القمم العالية. وعميدنا خلال رحلة أدبيّة قوامها نصف قرن أراد أن يبث لنا قناعة صريحة واضحة لا لُبس فيها: الحرية لا تُمنج بل تُخلق ونحن من نساهم في خلقها أو توسيعها، لأنها قرارٌ نتخذه بأن نكون أحرارًا وأن نحرر الغير، وهذا القرار يتشكل في النهاية من مساحات فرديّة، تشكل كلّ مساحة منها فُسحة تنويريّة للفرد لأن يمارس فاعليته وليعبر عن تمايزه وفرادته، وهذا ما صنعه صاحبنا. فهو مدمن على الشّعر، لم ولن تقوى جميع المصحات العالمية من علاجه، وكأنه يقول للشّعر: أنتَ موطني الذي هجرت كلّ العالم لأسكنه.
إنّ المتأمّل في أدب شربل بعيني يلحظ إنه بدا كشاعرٍ بكتاباتٍ فرديّة، لكن مع الزمن أدرك أنّه كلٌّ للكل بفضل الشّعر، لهذا فتحه الشّعر على الجميع، فلم يقتصر شّعره على لبنان، بل تغنى بالكثير من العواصم العربية، تقبع في طليعتهم بيروت وبغداد، وتصدى لموضوعات، كأمراض الجالية، الثرثرة في الندوات الأدبيّة، مظلومية المرأة الشرقيّة، المصلوبين على جلجلة الحياة، محنة الفكر الشرقي، الخيانة، العائلة، الحبّ، والأنكى من ذلك تجد ظاهرة إنسانيّة عالية في كتاباته تتمثل بوقوفه دائمًا إلى جانب الذين لا يجارون الموضة ولا يسيرون في ركابها العالية.
عاش شربل في حياته دوريْ الضحية والجلاد، فهو ضحية الساسة في بلده الأم وضحية منافسيه، وضحية طيبته، وضحية الشهرة، غير أنه ظلَّ ملتزماً برسالته لا يحيد عنها، لم تمنعه قلاع ولا سواتر ولم تصده موانع ولم تردعه روادع أو مخاوف، ولم تتراجع عزيمته أو يفرط في قضيته.
لكنه جلاد!. ستقولون كيف؟. فأجيبكم: في كلّ مجتمع ضحايا، وكلّ مجتمع له معذبوه، جلد شربل بكلمته ممارسات خاطئة بحق الإنسان، سواء صدرت من المجتمع أو الحكومات، أو كلّ من تسول له نفسه العبث في قيمة الآخرين.
سعى خبّاز الكلمة إلى رفع منسوب المحبة والمصالحة بين الأطراف المتقاطعة ثقافيًا وبالتالي خدمة الوحدة اللبنانية وتعميق جذور التآخي بين أبناء وطنه في مهجره. وهنا لستُ بحاجةٍ إلى مثالٍ لأنني أسوق للقارئ حقائقَ لا تحتاج إلى شرحٍ أو إيضاح.
وإذا كان شربل صوت الجالية نرى أن ربيعه يمتد ليكون مرآتها، فقد اتخذ قرارًا ليؤرخ الحياة الأدبيّة في أستراليا عَبرَ بوابة الغربة، فلا تفوته شاردة أو واردة إلا ونشرها، ينشر نشاطات الجميع، حتّى لو لم يكن حاضرًا أو مدعوًا في تلك النشاطات، فاستحق أن يكون صوتًا نافذًا في أدب المنفى الأوزي أو حارسًا لذاكرة الأدب الأغترابي إن صح القول، بيد أنّ الأمر لم يشغله عن "أسطرة أدبه"، أي جعله أسطورة، ذات القيمة الإبداعيّة، وتوثيق كلّ ما كتب وقيل عنه.
يسيل لعابي إزاء أيّ عملٍ فيه إبداع، لكن دموعي تسيل في الخفاء ويتفطر قلبي حينما أعرف شيئًا عن حياة المبدع وما تكبده من سهر وتفكير لكي ينتج لنا منجزه الإبداعي الذي أمتعني واستمتع به الكثيرون. ولكن، أتعلمون أنّ المبدع لم يستمتع غالبًا بحياته ولا بأوقاته. وصدقوني وحده المبدع غريب عن هذا العالم، لأنه يشعر بعدم الإنتماء له، فمن يعرف ويدرك أكثر تلقاه يحزن ويعاني أكثر، فللمعرفة والوعي ضريبتهما. هذا هو حال المبدعين والمفكرين والأدباء والشّعراء والمصلحين الخلاّقين الذين اضفوا شيئًا مميزًا على الوجود وبصموا بصمتهم في جبين الحياة وصنعوا التاريخ. وشربل دون أيّة مغالاة واحدٌ من هؤلاءِ، بعد أن أشعل شمعة حياته من طرفيها وأكتوى بنار الإبداع والعطاء، فاحترقت حياته بالمعاناة والإحساس بعدم الرضا عمّا ينتج، والترقب المستمر والتفكير المتواصل.
ختامًا:
ما أجمل أن يكون للإنسان قضيةَ حياة يحيا في سبيلها، لا يساوم أو يجامل على حسابها، قضية يصوغ منها قصّة حياته في رحلة الوجود الأرضي القصيرة.
لهذا أؤمن بشيء: إنّ قيمة المرء تكمن في أمورٍ عدة، أهمها: أن يكون ذا قضية ومبدأ ورسالة، ومتى كان فيه كلّ هذا سيغدو مُميزًا ومتميزًا، وبقدر ما يكون المرء صادقًا وأمينًا في عيش رسالته وقضيته بقدر ذلك سيحقق مشروعه ويحقق ذاته ويطبع أثره في النفوس وينقش أسمه في لوح الخلود: وما الخلود، سِوى إنّكَ تعيش في الوجودِ وتمرُّ في حياةِ الآخرين في زمانِ ومكانِ وواقعِ حياة، فتترك أثرًا فعّالاً وإيجابيًا، وبقدر ما يكون حجمُ وعمقُ وكثافةُ أثركِ الايجابي، بقدَرِ ذلك سيكون حجمُ خلودِكَ، أثرًا يجعلك حيًا فيه. وبذلك ستكون قد بلغتَ أوجَ عظمةِ حياةٍ مُتساميةٍ تجعلكَ في خلودٍ أبدي[1].
وشربل كانت ولم تزل قضيته الشّعر والأدب، لم يتخلَ عنها، بل حققها بنجاحٍ يشهد له الجميع. فالحياة في مفهومه رسالة تتضمن مرحلةُ إبداعٍ، خدمةٍ، وجودٍ فعّال، عسى ألّا نجعلَها مرحلةً عابِرة، بل كشفاً واكتشافاً وتعمّقاً وهدفاً وقيمةٌ كبرى، تكون بدايةَ خلودٍ أبدي، كُلّنا مدعوون لها.
عزيزي القارئ، ربّما سيقول لك الكثيرون، ويحاولون غسل دماغك، بإنّك ستدفع ثمنًا باهظًا، وستجعل من حياتك صراعًا مستمرًا، بل سيحثونك على التمتع بالحياة، مطبقين عليك المثل العراقي المعروف: "ألبس الكبع وألحق الربع".
فأجيب:
من الصعب جدًا، بل متعبة حياة على هذه الشاكلة، ومغامرة شاقة لمن يريد السباحة عكس التيار لئلا يكون رقمًا عابرًا في معادلة الوجود، ومرهقة هي الأيام لمن يبغي الإصلاح والتنوير. والأصعب لمن يعرض ذاته لرياح شديدة تهب عليه من كلّ الجهات لتصده وتوقف فيه مسيرة الكلمة ومبادئ الحبّ ورسالة التنوير ونحر كلمته الوضاءة في زمن الحرية. وما الكلمة سوى الإنسان بعينه وانعكاس له، بل هي صدى أعماق، يقولها لذاته وللآخرين، مُجسّدًا في كلمته المنطوقة والمكتوبة حبًّا وإيمانًا وقناعة ووضوحًا وخدمة وخلودًا، يقولها أو يكتبها سعيًا وراء هدف نبيل، سيّما إذا كان الإنسان، المُجتمع، الوطن، الثقافة، لأن الصمت شنق للذات ونحر للآخر.
إنسان على هذه الشاكلة حتمًا سيكون طعامًا للكثيرين، ولكن طوبى بل هنيئًا لمن يطعم الجياع. وشربل اطعم الكثيرين من موائد أدبه، فألف شكر لك يا خبّاز الكلمة في فرن الأدب الأغترابي.
وليس أجمل من أن أنهي كتابي هذا بمقطفات من مقالات كثيرة كتبتها، كان اسم شربل بعيني يمر فيها كنور الشمس من نافذة منزلي البغدادي، لتدركوا مدى إعجابي برسّام الكلمات صديقاً وأديباً.
وإليكم ما حصدت من أرشيفي:
فؤاد نعمان الخوري.. أنتَ في أَفئِدَتنا قصِيدَة
كان قد حدثني عنه الأستاذ شربل بعيني وعن براعته الشعريّة ومكارم اخلاقه، حتّى التقينا في مناسبةٍ سقطت من تضاعيف الذّاكرة، ثمَّ توالت اللقاءات والاماسي والمحادثات الهاتفيّة، كان اخرها في أمسية الشاعر الراحل رامز عبيد؛ حيث تَلألأ نجمه، وسطعت شمسه، ثمَّ جوبهت قصيدته العامية بالتصفيق الحار، حتّى أنّني هتفتُ له مع بعض الحضور:" الله يا كبير".
في تلك اللقاءات وجدتُ صاحبًا لا يحتكر الحقيقة والصواب، لا يقلل من شأن أحد، لا يتحلى بشخصيّةٍ طاوسيّة، ولا يتكلم عن نفسه أو عن موهبته الراقيّة، لانه الرقي بعينه. ليست له ذات متورمة متضخمة لا ترى سواها، بل على العكس، فهو يحاكم نفسه في محكمة الضمير. يتحاور مع الاخرين بصوتٍ مُنخفضٍ وبلغة تواضع الكبار. والحال أنّ الاستاذ شربل بعيني كان كالعادة صادقًا في تقييمه.
**
أنطوان القزي الأرز الشامخ
ذات يوم كان الأستاذ شربل بعيني مُنهمكًا بتنقيح كتابي "المبدعون غرباء عن هذا العالم"، فطلبت منه طامعًا بسخائه أنْ يتفضّل عليَّ وينقح كتابي الاخر، لكنه أعتذر بلطفٍ وشفافيةٍ لضعف بصره وعدم قدرته على القراءة الطويلة، وأسدى لي النصيحة بالإتصال بالأستاذ أنطوان قزي رئيس تحرير صحيفة التلغراف الأستراليّة، لأنه أديب قدير ولغوي ضليع. وقد اخذت بتلك النصيحة واتصلت به وعرّفته بنفسي وعرضت الأمر عليه، فأبدى الرّجل موافقته وتحمسه. ولكن يا فرحة ما تمت!، فالمدة الزمنية التي حددتها لمراجعة الكتاب لم تسعف أبا ناجي يومها.
مضت الشهور، وإذ بصديقنا الأستاذ موفق ساوا رئيس تحرير صحيفة العراقيّة الأستراليّة يبادرني بفكرة زيارة الأستاذ قزي في مقرّ صحيفة التلغراف لغرض منحه دعوة التكريم في مهرجانٍ رعته مؤسّسة العراقيّة للثقافة والإعلام والفنون، كنتُ أنا والقزي من ضمن المُكرمين.
استقبلنا السيّد أنطوني والحق يقال بحفاوةٍ بالغةٍ وترحابٍ كبير، وقد التقط لي يومها بعض الصور الشخصيّة في مكتبه، ومن ثمَّ نَشَرَها في صحيفته المذكورة، مرفقة بغلاف كتاب "المبدعون غرباء..."، فكنتُ له ولكرمه شاكرًا.
مع الأيام ربطتني به صلة إنسانيّة طيبة، وجمعتني وإياه صداقة أدبيّة على مرّ السنوات الماضية، وايقنت فيما بعد، يوم اشرف على التنقيح اللغوي لكتابيّ (أفكار وتأمّلات من تُراب) و(أحاديث قلمٍ في مرايا الذات والمجتمع) أنّه انسان مجتهد، المّ باطراف اللغة العربية وبرع فيها بجدارة، وأدركت أنَّ الاستاذ شربل بعيني وجهني كالعادة نحو الشخص المناسب والمُنقح الأمين.
**
أنطوني ولسن كبير من كبار أرض الكنانة
تلوح في ذّاكرتي نبُل مواقفه التي لا أنساها، فيوم أقيم حفلٌ كبيرٌ لتكريم ذلك الشيخ الجليل بتاريخ 29/1/2012 بمناسبة اطلاق كتابيه: "الحُبّ هو الدواء" و"ذكريات العمر اللي فات"، شرفني الرّجل لكي أكونَ مُتحدثًا فيه وسط حشدٍ رفيع من المثقفين والأدباء المصريين والعرب، فوجدتها مناسبة مؤاتية لكي أتحدث عن دوره البارز في الثقافة المصرية والمشهد الصحافي العربي في سيدني بدقائق معدودة لاقت استحسان الحضور، واذكر يومها كيف نهض العملاق الكبير بطرس عنداري رحمه الله من مقعده؛ حيث كان يُجالسني رفقة الدكتور موفق ساوا والأستاذ شربل بعيني وشقيقه جوزيف، ليهنئني على كلمتي وسلاسة المفردات وسلامة اللغة، فشكرته، وابلغته بأنّ الفضل يعود إلى أستاذي الجليل شربل بعيني الذي يُصحح اخطائي اللغوية. ولعلّي لا أكون واهمًا إنْ قلت: يُخالجني شعور بأنّ ذلك التشريف الذي مَنّ به عليّ الأستاذ أنطوني جاء بالتشاور مع صديق غربته شربل بعيني.
نَشَرَ "العم ولسن" أوّل مؤلفاته عام 1993، بتشجيع من والدة صديق غربته الطويلة الشاعر شربل بعيني؛ فتلك المرأة التي توفاها الله برائحة القداسة على ما يبدو لم يكن لها اليد الطولى في نجاحات ولدها التي تصلي له من السماء وحسب، بل كان لأبن ولسن من فضائلها نصيب، إذ أصرت يومذاك وألحت عليه وشجعته على النشر، ونزولاً لطلبها انجز العم ولسن مع مرور الشهور "ميثاق الشيطان"، وهو كتاب قصصي، صدر عن دار عصام حدّاد في بيروت، الذي يعتبر أوّل كتاب قصصي يصدر لمصري خارج مصر. الكتاب في الأصل نص مسرحي كُتب في القاهرة في زمن تزامن مع اصدار الرئيس الأسبق لمصر السيّد جمال عبد الناصر ميثاق الجمهورية.
وأحفظ له جميلاً اخر لن انساه أبدًا يوم سطر تعليقًا حول مقابلتي في تلفزيون الغربة الاسترالي؛ فكتب في 2 ابريل 2012:
"أبونا الأديب يوسف جزراوي السامي الإحترام .. تحية ومحبة المسيح لكم. كم سعدت بهذا اللقاء الروحي، الأدبي، والإنساني .
أبونا يوسف إنه لشرف عظيم لأبناء الجاليات العربية عامة والعراقية خاصة بوجودكم معنا في أستراليا .الرب يبارك أعمالكم. والكلمة هو الباقي (والكلمة صار جسدا وحل بيننا). ونحن من يؤمن بخلود الكلمة في كتاب نتركه لمن يأتي بعدنا وليكون الكتاب كاتم سر تاريخ أحداث وأفكار الحقبة التي عاشها وتعايشها صاحب الكتاب ومؤلفه وكاتبه. يقولون لقد طغى الإنترنت على قراءة الكتب.. وأقول لا ما زال الكاتب والكتاب وسيظلان إلى الأبد الشعاع الذي ينير البشرية ويأخذها إلى الإرتقاء والتقدم . وما نقرأه على الإنترنت ما هو إلا نتاج كاتب ووضع في كتاب عيبه الوحيد أنه غير متكامل للكاتب الواحد. لكنه "الإنترنت" حافظ لما نكتب وينشر على صفحاته ويمكن للكاتب أن يعود إليه لجمع ما سبق ونشره ويصدر به كتابا . أبونا يوسف جزراوي شكرا لكم على إصداركم الجديد ونحن في إنتظار توقيعه .شربل بعيني شكرا لكم على هذا اللقاء الأدبي المميز".
**
سركيس كرم الذي ايقظته الغربةعلى اوجاع لبنان
أخيرًا.... أتعلم يا سركيس أنّني أقرأ للكثيرين من اللبنانيين في المهجر الأسترالي بدءًا من كبيرهم شربل بعيني وصولاً إلى إبن زغرتا البار سركيس كرم.
تحية إليك وإلى كلّ الشرفاء في لبنان والعراق وأستراليا، تلك البلدان المعطاءة. فأنتَ الكاتب الإنسان، الذي له في قلبي منزلة كبيرة.
**
مارسيل منصور بين التغيير والتحرر
زينت لوحاتها ورسوماتها أغلفة العديد من الكتب منها للأديب المصري أنطوني ولسن، الصحافيّ والكاتب الفلسطيني هاني الترك، الأديب اللبناني شربل بعيني، وكاتب هذه السطور وغيرهم.
**
كلمة ألقيت في تكريم الشاعر مروان كسّاب بمناسبة توقيع ديوانه "دموع الخريف" 2015
"مُنذُ أسرجَ الليلُ نجومهُ، ايقظتهُ الغربةُ على اوجاعِ لبنان.
في دموعِ الخريف، مأساةُ وطنٍ في قلبِ إنسان، رسمَها قلمُ قاضٍ كالفنان.
جعلَ للربيعِ ابتسامةً، بانيًا للخوف مذوذًا، مُشيدًا للكلمةِ الحرة الجميلةِ قلاعًا.
لأجلِ صباحاتٍ مُشرقة. علّق الحبرُ أقلامهُ في سَقفِ الليل، فكانت ومضاتُ قلمهِ قناديلَ، تنثرُ اضواءَ النجومْ، في ليلٍ دامس.
إمتطى جوادَ الشعرِ، واستلَ سيفَ القانونِ، تاركًا ابجديته تبوحُ بدموعِ شاعرٍ، غدا صوتًا صارخًا في بريةِ الشعر ِالمهجري.
من سيدني إلى لبنان، انسابت دموعُ شاعرٍ كسّاب. وهأنذا ورابطةُ البيّاتي للشعرِ والثقافةِ والأدبِ، أتيناكَ من أرضِ العراق، من حضرةِ أبي نؤاس والسياب والمتنبي والبياتي، نكففُ الدموع، ونُكرمُ شاعرًا من حضارةِ لبنان، من طينةِ نُعيمة والخوري والقزي والبعيني (2) وجبران.
أتيتُكَ اليومَ يا كسّاب كنهرٍ مُنسّاب. حتّى نلتقي لأشبك يدي في يديكَ، لا هنا بل في بغداد الشعرِ والصورِ والمعلقات، وأُزين صدركَ ثانيةً بقلادةِ إبداعٍ على ضفافِ فُراتْ الحضارات. ألف مبروك التكريم".
**
الدكتور موفق ساوا تسكنه فضاءات المسرح
ولقد توطدت علاقتي به بشكلٍ كبير إلى حدٍ كنا نلتقي كلّ اسبوع تقريبًا أثناء التحضيرات الأوّليّة لمهرجان العراقيّة ومعنا مجموعة من الأصدقاء، اذكر منهم الأديب شربل بعيني، الكابتن سعدي توما، الاستاذة هيفاء متي والشاعر احمد الياسري.
**
العملاق يحيى السماوي كالحجر الذي رفضه البناؤون وصار رأسًا للزاوية
وعندما منحته رابطة البيّاتي جائزة القصيدة العموديّة مناصفة مع الشاعر شربل بعيني لعام 2015 في مهرجانها الثاني، طلب البعيني من نائب قنصل جمهورية مصر السابق أن يستلمها السماوي عوضاً عنه، قائلاً: "لا أستحقها بوجود السماوي". فما كان من شاعرنا يحيى السماوي إلّا أن طبع قبّلة على جبينه، فنال شربل بذلك جائزتين في وقتٍ واحد: جائزة البيّاتي وقبلة السماوي.
**
من مقال عن الفنان حيدر عباس العبادي
ذات صباح وبينما أنا جالس اتناول قهوتي ومندمج بمراجعة مخطوطة كتابي "ملحمة كلكامش ط1" رنّ هاتفي الشخصي - الموبايل - وكان المتحدث هو الرسّام المعروف حيدر العبادي، مستفسرًا عن مضمون اللوحة التي كنتُ قد كلفته برسمها منذ زمن لتزين غلاف الكتاب المذكور. حينها حبست الالم في صدري، ومضيت للقول بنبرة الخجل: انني اود لوحة لكتابي "أفكار وتأمّلات من تُراب" وليس للذي ذكرته، لأن الرسام العراقي المتألق د. وسام مرقس انجز لي العمل. ويجب أن أعترف هنا بإنَّ الرجلَ كان مرنًا متفهمًا ومهنئًا، وابدى استعدادًا وتحمسًا، فجرى الاتفاق على لقاءٍ قريب تتم خلاله تلاقي الرؤى حول مضمون الكتاب ورموز الغلاف التعبيرية.
وفي مطلع شتاء عام 2012 تلقيتُ دعوة من قنصل لبنان السابق السيّد ماهر الخير لحضور امسيته الشعرية التي اقامها في "الاوبرا هاوس" بسيدني، فذهبت صحبة عميد الادباء المهجريين الأستاذ شربل بعيني، وهنالك رأيت الاستاذ حيدر الذي كان له معرض فني واسهام ملحوظ بتصميم ديكورات العرض المسرحي الذي رافق الأمسية الشعرية. تطلعت إليه ونظرت إلى جبينه فوجدت تاريخ العراق، امعنت النظر بوجهه ذي البشرة السمراء، فتذكرت بلدي. حدقت النظر في عينيه السوداوين وعرفت تلك الأوقات القاتمة التي قضاها في بلده. تفرست به مُجددًا، وإذا بمتاعب رّجلٍ أنفق شبابه للفن ترتسم على محياه، كأنك تقرأ فيه تفاصيل اليمة وهمومًا دفينة. رّجل يبحث عن تفاصيل فنية تخرجه من قعر تلك الأيام المظلمة التي يصعب على الذاكرة نسيانها!
**
مقتطفات من مقال: بين لعنة الله علينا وعنترة وسياسة البسطال
نحتاج الى جهد جهيد، لتحطيم هذه السياسات التي نشأنا عليها عقوداً من الزمن واصبحت بمثابة قناعة خاطئة مُتجسدة في سلوك يُعقد حياة الإنسان العربي ويملأه بالعقد والمخاوف....
قال الشاعر السوري العربي الأكبر نزار قباني:
"الشعب مثل الطفل الصغير يرضى بقطعة حلوى"، ونشر الحقائق في قصيدته (عنترة) وحذا حذوه الشاعر اللبناني العربي الكبير شربل بعيني في رائعته: قصيدة (لعنة الله علينا).
نعم نحن كشعوب قبلنا بسياسة الصمت امام عنترة بلدنا وسياسة (البوت – البسطال العسكري)، وكان الكثيرون منا يهتفون امام (عنترة) القائد المفدى (يعيش.. يعيش) وفي اعماقهم يهمسون (لعنة الله عليه)! وبسبب سياسة معظم حكامنا العرب (سياسة فرق تسد... ناهيك عن سياسة التمييز الطائفي والعشائري...) بتنا في وضع لا يتقبل الآخر بسهولة، فصار لدينا مخاوف من الإنفتاح على الآخرين خوفًا من وشايتهم علينا، فاغتيلت فينا قناعة النطق بكلمة حق.
2013
**
اهداء كتاب نخيلٌ في بستان الذّاكرة... الصادر عن دار سطور- العراق- بغداد/ شارع المتنبي 2016.
- إلى المدفعيّة الثقافيّة الثقيلة وترسانة الإنسانيّة الأدبيّة، ابائي الروحيين وقرّة عيني:
ـ البحّاثة د. بطرس حدّاد الذي رحل عن عالمنا دون استئذان؛ بموته غارت الينابيع في الأرض ويبست عروقها. لقد أشعل الموت عود ثقاب في قلبي الذي يتلظى بنيران رحيله. لينفعنا الله بصلاته من علياء سمائه. آمين.
ـ الشاعر الكبير شربل بعيني ذي القلب المفتوح حُبًّا وصدقًا وتعليمًا وتواضعًا وبراءةً، وهل هُناك من ضحكة محبة أكثر براءةً من تلك التي يطلقها البعيني. إنّه قلم المطافئ ومركز الثقل في أدبنا المهجري الأُسترالي وحجر الزاوية في جلساتنا الثقافيّة وسقف الوعي في احاديثنا وندواتنا الأدبيّة. أطال الله بعمره. آمين.
ـ العملاق المتواضع الشاعر يحيى السماوي، الذي لم ولن يتعملق على حساب الآخرين، مُتقنًا لغة المحبة الكونيّة، عارفًا فنّ مواصلة الموَدّة والتمسك بحبال الوفاء وأخلاقيات الإنسانيّة. لا يعرف التزمت ولا يقبل التعصب ولا يميل إلى التشدد، بل هو صورةٌ مشرقة لسماحة العراق وطيبة العراقيين وتنوعهم الحضاري.
بمولده انبلج على الأدب العربي فجرٌ جديد. قلمُه سيال كحقل من القمح تحت المطر، لسانُه يَقطر عسلاً من بليغ الكلام، أما هو، علم خفاق فوق الساريات.
رعاه الله بصحةٍ لا تبلى. آمين.
لقد وجدتُ في شخصيّة هؤلاء الفرسان الثلاثة (فرسان الكلمة) مزايا مُقاربة لشخصيّة والدي المثقف المرحوم نبيل جزراوي، فبعد رحيله المفاجئ إلى الأخدار السماويّة عوضني الله بحدّاد والبعيني والسماوي.
الأب حدّاد كان يشرق أبوته من تاج الشرق بغداد، أمّا في أستراليا من وراء البحار النائية: شربل يشمِّس من سيدني، ويحيى يغمرني باشعة الرافدين من اديلايد، وأنا تحت شوامس محبتهم أسير بعكازة الصداقة، فوجودهم لم يشعرني أني فقدت أبي.
وعدًا وعهدًا كلّ ما حييت ألا أنفض يدي من صداقتنا النبيلة ولن أتنازل عن تلك الأبوة الروحيّة، مواظبا في مدارس تعليميّة وأدبيّة، اساتذتها قمم في الإنسانيّة.
**
تعليق على مقال: الثرثرة في ندواتنا الأدبية
أستاذنا الكبير شربل بعيني
مقالٌ جميلٌ ونبيلٌ، دائمًا يسيل لعابي وأنا أطالع كتاباتك المرموقة، ولكن في هذا المقال اللامع الرائع أختصرت عليّ عناء كتابة مقال بهذا الصدد.
مقالك أشبه بمنارة تكتسح ظلام الثرثارين؛ فالثرثرة أصبحت وللأسف آفة تفتك بندواتنا الأدبية، فالبعض حين يعتلون ناصية المنبر يتوقون إلى إصغاء الآخرين لكلماتهم، بينما هم يعيثون الضوضاء ويطلقون إبتسامة السخرية والإنتقاص حين يعتلي غيرهم المنصة.
دمت جرس انذار وصوت حق وحقيقة، وقلم توعية يرفع سقف الوعي في أدبنا المهجري.
تقبل شكري ومحبتي وسؤالي الدعاء.
**
[1] أنظر كتاب الأب يوسف جزراوي: ملحمة كلكامش، ط2، ص 120، بغداد 2015.
[2]ـ شربل بعيني
**
